لجنة أور و"وهم التوجّه للعدالة" | عدن طاطور
نشر المقال في موقع عرب 48 بتاريخ 11.10.2020
مرّ عقدان على أحداث أكتوبر 2000، التي استُشهد فيها 13 شابًا فلسطينيًّا داخل الخطّ الأخضر، وجُرح المئات برصاص الشرطة الإسرائيليّة وقنّاصيها. ارتبطت هذه الأحداث جذريًا بانطلاق الانتفاضة الثانية التي استُشهد خلالها آلاف الفلسطينيين وجُرح عشرات الآلاف على مدى سنوات.
بعد أحداث أكتوبر عُيّنت لجنة تحقيق رسميّة (معروفة باسم لجنة أور)، وهذه أقرّت بأن الشرطة استخدمت القوّة المفرطة خلال الأحداث، بما يخالف تعليمات إطلاق النار. مع ذلك، لم يُفتح أي ملف تحقيقٍ جنائيّ ضد أي من أفراد الشرطة المتورّطين بالقتل، وأُغلقت بهذا ملفّات أحداث أكتوبر 2000.
اتّضح في السنوات التي تلت لجنة أور أن القيادة الفلسطينيّة في الداخل تبنّت السرديّة التي أسس لها تقرير اللجنة، والتزمت بخطاب المواطنة في تناولها مقتل الشهداء. بالتالي، أصبح المطلب المركزيّ المتكرّر هو مطلب فتح التحقيق الجنائيّ ومحاكمة المسؤولين، كما تكرّرت المقارنة بين تعامل الدولة مع المواطنين الفلسطينيين وتعاملها مع مجموعات أخرى (الأثيوبيين، مثلًا)، وكذلك ازدادت مقولات على غرار "نحن مواطنو الدولة ولا نستحق مثل هذا التعامل". عمليًا، خلق خطاب القيادة السياسيّة في الداخل تمييزًا بين الفلسطينيين، ورسم خطوطًا تُحدد حالات القتل "الاستثنائيّة".
بهذا، قُدِّمَ الشهداء الفلسطينيّون مواطنو إسرائيل إلى واجهة النضال بينما جُنّب 4,000 شهيد فلسطيني من الضفّة والقطاع سقطوا في الانتفاضة الثانية. ضمن الخطاب الذي أفرزته اللجنة، نُسبت دوافع الأحداث إلى التمييز المدنيّ ضد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، بدلًا من تناول الهبّة كتمرّد وطنيّ يربط بين الفلسطينيين من جانبيّ الخط الأخضر.
لا شكّ بأنّ مطلب القيادة السياسيّة بفتح التحقيق الجنائيّ والمحاكمة هو مطلب شرعيّ ومفهوم على ضوء المأساة الإنسانيّة التي تؤلم عائلات الضحايا. أما على المستوى السياسيّ، فإنّ المطالبة المتكرّرة غير مثمرة بسبب البنية الاستعماريّة لهذه الدولة التي تتأسس على الفوقيّة العرقيّة. تتّجه القيادة السياسيّة نحو خطاب ينحصر في الخط الأخضر ويطالب بمواطنة متساوية، لا يتأسس على خطاب تحرّر وطنيّ مناهض للتقسيم الاستعماريّ للشعب الفلسطينيّ، ويتجاهل حقيقة أنّ جميع أذرع السلطة تتعامل مع الفلسطينيين كمجموعةٍ معادية، بغض النظر إن كانوا مواطنين أو غير مواطنين. مؤسسة المواطنة، في نهاية المطاف، ليست إلا جزء من المنظومة الاستعماريّة.
لم تكن أحداث أكتوبر "حادثًا عرضيًا" ولا فشلًا مفاجئًا وقع كالصاعقة على الشرطة والسلطة. يظهر من تقرير لجنة أور ومحاضرها أنّ القيادة الأمنيّة جهّزت أوامر تحمل اسم "سحر المعزوفة" ("كيسم همنجينا") قبل عامين من الأحداث، في أيّار/ مايو 1998 تحديدًا، كخطّة احتياطيّة في حال خروج فلسطينيي الداخل بمظاهرات واسعة النطاق إثر إعلان دولة فلسطينيّة وقمعها من قبل الجيش الإسرائيليّ. تتضمّن أوامر "سحر المعزوفة"، بالأساس، تعليمات لاستخدام القوّات والوسائل الخاصّة ضد المتظاهرين؛ ومن ضمن ذلك إقامة فريق قنّاصة، واستخدامه في وقت الحاجة ضمن الوحدات الخاصّة مثل وحدة "يامام".
في إطار التجهيزات لأوامر "سحر المعزوفة"، أجريت في أيلول/ سبتمبر 2000، قبل شهر واحد من الانتفاضة، مناورة حملت اسم "رياح العاصفة"، هدفت لتدريب ضُبّاط شرطة ومسؤولين رفيعي المستوى على إدارة أحداث وسيناريوهات قد تترتّب عن تصعيد الأوضاع في غزّة والضفّة الغربيّة. وقد ظهر تشابهًا جديًا بين السيناريوهات المتوقّعة وأحداث أكتوبر.
يُبيّن تقرير لجنة أور أن الشرطة عملت بالفعل بحسب أوامر "سحر المعزوفة" خلال أحداث أكتوبر 2000. يصف محضر اللجنة مثلًا جلسة تقدير موقف في مكتب رئيس الحكومة يوم 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2000. حيث صرّح القائد العام للشرطة، يهودا فيلك، أن الشرطة طلبت الحصول على 16 مجنزرة من الجيش، لاستخدامها في حالة تحقّق سيناريوهات "سحر المعزوفة"، وأن تُعلَّم المجنزرات بشارة "الشرطة" لإيصال رسالة قطعيّة للجمهور العربيّ. وفي حال لم تصل هذه الرسالة، على حدّ وصفه، ستوفّر هذه المجنزرات قدرة معالجة للأحداث الفعليّة.
الأهم من ذلك أن أوامر "سحر المعزوفة" استخدمت كلمة "عدو" لوصف المواطنين الفلسطينيين. تتأسس الأوامر، عمليًا، على منطقٍ يناقض فكرة المواطنة، إذ يرى بالفلسطينيين عدوًا بماهيّتهم، يتطلّب أمرهم ردًا أمنيًا في حال خرجوا للاحتجاج وتضامنوا مع أبناء شعبهم في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة.
قدّمت لجنة أور نقدًا لاستخدام كلمة "عدو" في وثيقة الأوامر هذه، إنما يُمكننا أن نرى أن اللجنة لم تسائل فكرة وجود مثل هذه الأوامر المعدّة لقمع مجموعة معيّنة من المواطنين، بل تعامل اللجنة مع هذه الأوامر كوثيقة مفهومة ضمنًا وشرعيّة. تركّزت اللجنة بالإخفاقات المؤسساتيّة، وانتقدت عدم جاهزيّة الشرطة لتطبيق الأوامر وتجنيد الموارد البشريّة الكافية لمواجهة الأحداث.
يتأسس توجّه اللجنة هذه على الفهم بأنّ السلطة بكليّتها، لطبيعتها الاستعماريّة، تتعامل مع الفلسطينيين كعدو، ولا تستطيع عشرات الصفحات من الاعتراف بالتمييز المستمر ضدّهم أن تغيّر رؤية السلطة للمواطن الفلسطينيّ بهذا الشكل..
اعترفت اللجنة ضمنيًا أنّها تقبل فرضيّة السلطة الأساسيّة بأن المواطنين الفلسطينيين أعداء، إلا أنّها رأت أنّ الحاجة السياسية - القانونية لاستخدام تناسبيّ للقوة قد تستوجب محاكمة المسؤولين عن القتل.
لاحقًا، تُعزَّز هذه الفرضيّة الضمنيّة علنًا من خلال قرار وحدة التحقيق مع عناصر الشرطة ("ماحاش") إغلاق كافة الملفّات بحجّة أنّها أحداث وقعت ضمن "نشاط في ظروف حرب" أو "ظروف معركة"، وهو ما أفرغ الملفات من المسؤولية الجنائيّة اتجاه قتل "العدو".
يظهر بالمحصلة، أنّ "إنجازات" لجنة أور التي احتفل بها الكثيرون وهلّلوا لها، أُفرغت من مضمونها. منذ أكتوبر 2000 وحتّى اليوم، قُتل عشرات الشبّان الفلسطينيّين برصاص الشرطة، ولم يُحاكم أي شخص بتهمة قتلهم. مع هذا، لا تزال القيادة الفلسطينيّة متجمّدة في مكانها، ولم تنضج لتُعيد التفكير بمسارها، ولا بتجاوز إطار الخطاب الذي رسّخته سنوات لجنة أور.
بالنسبة لكثيرين، تشكّل لجنة أور نقطة ضوء، إلا أنّه يتوجّب على القيادة السياسيّة أن ترى الصورة الكاملة وتستوعب أنّ المطالبة بفتح التحقيق الجنائيّ غير كافية. الفلسطيني خارج عن القانون بغض النظر عن جانب الجدار الذي يعيش فيه. قد يعترفوا بأنّك قُتلت إن كنت مواطنًا، لكنّهم لن يعترفوا بقتلك كجرمٍ جنائيّ.
في مقالٍ له، يتوسّع المحامي حسن جبارين بفكر الفلسطيني كعدو، ويدّعي بأنّ هذه الفكرة سابقة للدولة ومؤسساتها، جزء من روح النظام، ولذلك لا يمكن أن نرى بالقتل فشلًا مؤسساتيًا يمكن علاجه. ويقارن جبارين بين قرار إغلاق الملفّات في أحداث أكتوبر 2000 من جهة، وقرار المحكمة العليا الذي أتاح استخدام القناصة لقمع مسيرات العودة في غزّة عام 2018 من جهةٍ أخرى، ويدّعي أن هذه المقارنة تقودنا إلى أن السياسيّ يُطبّق حُكمًا واحدًا على الفلسطينيين كونهم فلسطينيين، دون علاقة بأي عرف قانونيّ نابع من المواطنة أو الجغرافيا.
عمليًا، خلقت لجنة أور "وهم التوجّه للعدالة"، وعلى مدار عقدين انساق كثيرون خلف هذا الوهم، ومنهم قيادات سياسيّة ومنظّمات حقوقيّة. عزّزت هذه التجربة حقيقةً يُفترض أن تكون معروفة: لم ولن يتوقّف النظام أبدًا عن اعتبارنا أعداءً. في نهاية المطاف، تقود منظومات التحقيق المختلفة، والتي تعالج قضايا الفلسطينيين أينما وُجدوا، إلى ذات النتيجة. ثم يُطرح السّؤال: كيف نفهم هذا النظام القائم على أسس القمع، وهل يُمكن أو يجدر أن نطلب منه العدالة؟ لا حل سحريّ حين نقف أمام سياسة منهجيّة وراسخة عميقًا في طبيعة النظام الاستعماريّ، إلا أن الإمكانيّة قائمة أمام القيادة السياسيّة لإعادة التفكير وتقديم برنامج سياسي جذريّ لمواجهة النظام، بدلًا من البحث عن اعترافٍ ومسؤوليّة في داخله.