يجب التحقيق مع المُحقّقين | سوسن زهر

المحامية سوسن زهر: نائبة مدير عام مركز عدالة

 

نشر المقال على منصة “الساحة” في موقع “هآرتس” بتاريخ 1.10.2020

 

كان للوثائق التي نشرت مؤخرًا في وسائل الإعلام من مراسلات شاي نيتسان المتعلقة بإغلاق ملف التحقيق في جريمة قتل المربي يعقوب أبو القيعان، صدى إعلامي واسع، أدى إلى تمحور النقاش الإسرائيلي الداخلي العام حول الشُبهات التي تحوم حول نتنياهو. إذ تم توظيف التستر على مقتل مواطن بريء بصورة عبثية من أجل تعزيز خطاب الرجل الذي صاغ نهج "التحقيق مع المحققين".  وعليه، تعامل نتنياهو مع قرار إغلاق الملف المذكور كحدث استثنائي، متجاهلا بذلك قرارات كبار مسؤولي النيابة العامة والمستشار القضائي للحكومة، التي أغلقت بشكل مُمنهج العديد من ملفات قتل المواطنين الفلسطينيين على يد الشرطة. إذا تمعنا جيدا في نهج عمل سلطات إنفاذ القانون منذ مقتل المتظاهرين الفلسطينيين الـ 13 في هبة أكتوبر وحتى يومنا هذا، سنكتشف أنّ هذا الاستثناء الذي ذكره نتنياهو ما هو إلا نهج عملٍ متكرر. وعليه فهناك حاجة مُلحة للتحقيق مع المُحققين.

 

جاء في تقرير لجنة التحقيق الرسمية التي عُقدت خصيصًا للتحقيق في هبة أكتوبر - بعد أن جمعت 500 شهادة وآلاف الأدلة، استدعت 430 شاهدا وأصدرت تقريرا وصلت تِعداد صفحاته الـى 800 صفحة، أنّ الشرطة أطلقت النار على المتظاهرين بشكل غير قانوني، استخدمت قوة مُفرطة لقمع المتظاهرين رغم أنهم لم يشكلوا أي خطر فوري يبرر إطلاق النار عليهم. أوصت لجنة أور بأن تقوم وحدة التحقيق مع أفراد الشرطة (ماحش) بإجراء تحقيق جنائي، بل وأن تقدم لوائح اتهام ضد أفراد الشرطة المتورطين في عمليات القتل المذكورة. ولكن ومع الأسف، لم يتم فتح أي تحقيق حتى اللحظة ولم يتم إدانة أو معاقبة أي منهم.

 

توجّب على شاي نيتسان، نائب المدعي العام الذي عينه المستشار القضائي للحكومة ميني مازوز في حينه، إعادة النظر في قرار وحدة التحقيق مع عناصر الشرطة (ماحاش) الذي أوصى بإغلاق جميع الملفات رغم تناقضه مع توصيات لجنة أور. أفاد نيتسان بأنّه لم يجد أي مبرر يدعوه إلى إلقاء المسؤولية الجنائية على أي شرطي أو ضابط حتى وإن خرق هؤلاء أوامر إطلاق النار، وذلك لأنّ الظروف كانت "قتالية" في حينه. وعليه يجوز للقائد الميداني اتخاذ القرارات "المتوقعة منه في ظل ظروف كهذه". وردت هذه الأقوال في تقرير المستشار القضائي للحكومة، الذي تبنى قرار وحدة التحقيق مع عناصر الشرطة (ماحاش) القاضي بإغلاق الملفات.

 

هناك علاقة وطيدة بين إغلاق ملفات أكتوبر 2000 وبين "التستر" على المتورطين في قضية قتل أبو القيعان. ففي كِلتا الحالتين، تنصلت الدولة وأجهزتها استنادا إلى عقيده "العدو الأجنبي"، من مسؤوليتها تجاه المواطنين الفلسطينيين. تتيح هذه العقيده العنصرية، التي فقدت شرعيتها عقب الحرب العالمية الثانية، المجال لشل سلطة القانون في الحالات التي تتداخل فيها مجموعات عرقية وقومية "عدوة"، بحيث لا يتم اعتبار مقتل المنتمين إليها وإن كانوا مدنيين مخالفة جنائية.

 

قُتل يعقوب أبو القيعان برصاص الشرطة خلال عملية عسكرية كان هدفها هدم بيوت قرية أم الحيران في النقب وتهجير أهلها. سارع قائد الشرطة الإسرائيلية روني ألشيخ ووزير الأمن الداخلي جلعاد أردان بنعتِ يعقوب أبو القيعان "بالمخرّب" واتهامه بمحاولة دهس أفراد من الشرطة. لم نكن نحتاج الرجوع للاكتشافات الأخيرة لنصرَّ على الموقف الذي اتخذناه، بأنّ المدّعي العام في حينه شاي نيتسان أغلق الملّف متجاهلا تمامًا جميع الأدلة والحقائق الدامغة التي عرضت عليه. توجّه مركز عدالة عام 2018، للمستشار القضائي للحكومة مطالبا إياه الاطلاع على جميع مواد التحقيق بل وإعادة النظر في القضية وفتح تحقيق بشكل مستقل وحيادي، الأمر الذي كشف لاحقا عن تضارب مصالح، تبنّي اعتبارات سياسية وغريبة وتشويش على سير التحقيق.

 

تجندت سلطات إنفاذ القانون في واقعة مقتل خير حمدان من قرية كفركنا عام 2014، للدفاع عن "اعتبارات العناصر التنفيذية". ألغت المحكمة العليا قرارها بإغلاق الملف، وذلك لأن الأدلة كانت دامغة وأشارت بوضوح إلى وجوب تقديم لائحة اتهام ضد أفراد الشرطة المتورطين. لكن وبالرغم من ذلك، قدم المستشار القضائي للحكومة طلبًا لإجراء جلسة إضافية مدعيًا أنّ تقديم لوائح اتهام ضد أفراد الشرطة، قد تردعهم مستقبلا من استعمال القوة لاحقا إذا ما لزم الأمر.

 

تنصّ بعض استنتاجات لجنة أور على التالي: "على أفراد الشرطة تذويت فكرة أن المجتمع العربي ليس عدوهم، بل وأن يتوقفوا عن التعامل معه من هذا المنظور". ولكن كي يتم تطبيق هذا النهج على أرض الواقع، على سلطات إنفاذ القانون أن تولي حياة الفلسطينيين قيمة مساوية لحياة غيرهم من الإسرائيليين، بل وعليها أيضا التصرف بنزاهة بغية تحمّل تبعات أفعالها. وعليه، يطالب مركز عدالة إنشاء لجنة مستقلة ذات صلاحيات مُلزمة قانونيًا، لإعادة النظر في إخفاقات التحقيق في ملفات أكتوبر 2000. تبنت لجنة المتابعة العليا هذا الموقف، وانضمت لمطلب التحقيق في ملفات مقتل عشرات المواطنين الفلسطينيين برصاص الشرطة منذ عام 2000، التي أغلقتها وحدة التحقيق مع أفراد الشرطة (ماحاش) يشمل ذلك ملف مقتل يعقوب أبو القيعان.

 

الكاتبة محامية ونائبة مدير عام عدالة- المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل. مثّل المركز عائلات شهداء هبة أكتوبر أمام لجنة أور ورافقهم خلال سلسلة من الإجراءات القانونية الأخرى. تنظر المحكمة العليا حاليًا في الالتماس الذي قدّمه مركز عدالة بالتعاون مع اللجنة العمومية لمناهضة التعذيب، ضد قرار المدّعي العام شاي نيتسان إغلاق ملف التحقيق في مقتل يعقوب أبو القيعان.