نقاشات في المفاوضات في جنوب أفريقيا حول: الدّستور، جرائم الأبرتهايد والديمقراطية

ز. م. يعقوب | مجلة "عدالة" الإلكترونيّة، العدد 1، أيار 2004
لم يعش المستوطنون البيض والأفارقة جنبًا إلى جنب بانسجامٍ وبروحٍ من الاحترام المتبادل، مطلقًا.

 


 

 

ز. م. يعقوب | مجلة "عدالة" الإلكترونيّة، العدد 1، أيار 2004

 

 

مقدّمة

أجرت جنوب أفريقيا في 27 نيسان من العام 1994 انتخاباتها الديمقراطيّة الأولى. وكان ذلك الحدث تاريخيًا، مؤثّرًا جدًّا وهامًا من دون شكّ لملايين النّاس في جنوب أفريقيا. لم يكن أحدٌ منّا قد صوّت في السابق. وكانت أكثريَّتنا، جميع المواطنين السّود، قد تعرَّضت للقمع والاستغلال، على مدى أجيال، من قبل حُكم الأقليّة البيضاء التي طبَّقّت مخطَّط الأبرتهايد البغيض. وقد خاض شعبنا نضالاً قاسيًا وقدّم الكثير من التّضحيات من أجل تحقيق الديمقراطية. لقد تمّ اقتلاع ملايين النّاس من بيوتِهم، وتعرّضت الآلاف المؤلَّفة للحظر والسَّجن والاعتقال والتَّعذيب والقتل.

 

أشارت هذه الانتخابات إلى نهاية الأبرتهايد وتوَّجت النّضال المتواصل من أجل الديمقراطية والمفاوضات الحسّاسة وتبنّي دستور مرحليّ. وبعد المزيد من المفاوضات، تمّ وضع الدّستور النهائيّ ليصبح ساري المفعول في العام 1997. ونحن، الآنَ، في خضمّ عمليّة تحقيق وعود هذا الدستور للجميع. لقد طُلب منّي إلقاء كلمة اليومَ، على الأرجح، لكون نضال شعبنا، وبدعمٍ من العالم، أدّى إلى وضع دستورٍ مدروسٍ يشكّل أساسًا لمجتمع ديمقراطي حقيقيٍّ. بكلمات أخرى، إنني موجود هنا بسبب قمعنا، ونضالنا ونجاحنا. وأتقدّم بالشّكر لكلّيّة القانون لمنحها لي فرصة المساهمة في بعض التّجارب والأفكار، راجيًا أن يكون ذلك مُجديًا ووثيق الصلة بالموضوع.  

              

سأستهلّ الكلام بالتحدّث، على نحو شامل، عن شرور الأبرتهايد والنّضال من أجل الديمقراطيّة. وسأحاول، ضمن هذا السّياق، تحديد سمات عمليّة التّفاوض، إبراز بعضٍ من عناصرها ونقاشاتها الأساسيّة ووصف ما آلت إليه.

 

 

 



الأبرتهايد في جنوب أفريقيا

بدأ احتلال البيض لجنوب أفريقيا في أواسط القرن السّابع عشر في رأس الرجاء الصّالح. وأسّس المستوطنون البيض في العام 1910، اتّحاد جنوب أفريقيا، الذي قاربت مساحته ما يعادل مساحة جنوب أفريقيا اليوم، واحتلّوه وتحكّموا بشؤونه. لم يعش المستوطنون البيض والأفارقة جنبًا إلى جنب بانسجامٍ وبروحٍ من الاحترام المتبادل، مطلقًا. لقد استغلَّ البيض، دائمًا، موارد بلادنا وحدهم، ولصالحهم فقط. ولعب الشّعب الأفريقيّ دورًا ثانويًا وهامشياً.

 

إتَّخذت مقاومة الشّعب الأفريقي طابعًا تنظيميًا مع تشكيل المؤتمر الوطني الأفريقيّ في العام 1912. وأصبحت عمليّة استغلال السّود وقمعهم في جنوب أفريقيا، خلال الحقبة الممتدّة ما بين 1912 و 1948، أكثرَ ضراوةً وتنظيمًا وتركيزًا. ولا شكّ في أنّ قانون الأراضي للعام 1913 الذي قيّد الشّعب الأفريقي بشدّة في ملكيّته للأرض والإقامة فيها والسيطرة عليها كان أحدَ معالم القمع في تلك الفترة. وتألّفت المقاومة، خلال تلك الفترة، أساسًا، من المفاوضات، ورافقها تصاعدٌ في أعمال الاحتجاج. وأصبح الأبرتهايد، بعد العام 1948، منظّمًا، وباتَ تطبيقه أكثرَ وحشيّةً. وضمن برلمان الأقليّة البيضاء أن تبقى القوّة الاقتصادية والسّياسية في أيدي البيض. وتمّ تجريد الأقليّة المحرومة من حقّ الاقتراع من إنسانيّتها بكلّ الطرق الممكنة. فعلى سبيل المثال: إجلاء الملايين من السّود عنوةً عن أراضيهم؛ حجز أماكن العمل لصالح البيض؛ التفاوت في التعليم والمرّتبات؛ حجز المرافق المنفصلة، بما فيها المتنزّهات والمقاعد العامة وسيّارات الأجرة والحافلات والقطارات، لاستخدام البيض وحدهم بالإضافة إلى التقاعد والهبات غير المتساوية. وتمّ اعتبار الأقليّة المحرومة من حقّ الاقتراع بمثابة أقليّة يمكن الاستغناء عنها، حقًا، وجرى حصرهم في بلدات خاصّة بهم وفي مواطنهم التي أرغموا فيها على كسب قوتهم البائس بمشقّة. وتصاعدت مقاومة الأكثريّة، أيضًا، خلال هذه الفترة وقُوبِلت بفرض الحظر على النّاس وعلى منظّماتهم، وبالاعتقال المنزليّ، وبالاعتقال من غير محاكمة، وبالتّعذيب أثناء الاعتقال وبحالات وفاة أثناء الاعتقال، وما إلى ذلك. وقوبل تصعيد المقاومة في أيّام الأبرتهايد الأخيرة بممارسات منفلتة من قبل الشّرطة والجيش خلال المظاهرات، وبعمليات قتل عشوائيّ للناس المشتبه بكونهم ناشطين، وبحالات اختفاءٍ غير معلن عنها. لكن، لم يكن ممكنًا وقف مقاومة شعب جنوب أفريقيا. واستمرّت منظّمات الشّعب المحظورة في النموّ من ناحية مكانتها وقوَّتها، وتزايد انعزال جنوب أفريقيا في السّاحة الدولية. وأخيرًا، لم يبقَ من خيارٍ أمام نظام حكم جنوب أفريقيا سوى التّفاوض للتقدّم نحو الديمقراطية.

 

 

 



ميزات المفاوضات

بدايةً، يتوجّب علينا أن نحدّد لماذا كانت هنالك مفاوضات، عمليًا، بين نظام جنوب أفريقيا وبين المؤتمر الوطني الأفريقي. يقولُ البعض إنّ هذه المفاوضات كانت نتيجة تغيير في موقف أعضاء من نظام البيض الذين أدركوا مدى الإجحاف والوحشيّة الكامنين في تصرّفاتهم السّابقة وأرادوا التّكفير عما اقترفوه وضمان إقامة نظام دستوري جنوب أفريقيٍّ عادل ونزيهٍ. أنا، شخصيًا، أشكّ في ذلك. السَّبب الأرجح هو أنّه أصبح للقمع تأثير عكسيّ. فلم يعد من الممكن سحق مقاومة الشّعب، وتواصلت العزلة الدوليّة في الازدياد، واتّضح للنظام أنه لا يستطيع الاستمرار في الحكم. وربّما تبلور هنالك الإدراك بأن خلاص البيض في جنوب أفريقيا منوط، بشكل حتمي، بدرجة معيّنة من تعايش الناس جميعًا ضمن إطار البلد.

 

من جهة أخرى، لم يكن بإمكان المؤتمر الوطني الأفريقي، أيضًا، مواصلة النّضال إلى أجلٍ غير مُسمَّى. فقد كان من غير المحتمل أن تنجح حرب العصابات في إسقاط نظام متماسك ومدجَّج بالسّلاح في المدى القصير أو المتوسّط. لقد كانت ضرورة إعادة بناء مجتمع جنوب أفريقيا والتخفيف من المعاناة فيه أمرين واقعيين وملحّين.

 

من هنا يمكن القول إنّ المفاوضات لم تكن بين مجموعتين استهدفتا الوصول إلى النتيجة ذاتها. فقد أُجريت المفاوضات بين ممثّلي أكثرية الشّعب من ناحية، وبين ممثّلي الأقليّة البيضاء، من ناحية أخرى. وكانت الأقليّة في السّلطة مسيطرةً على كافة الموارد، تقريبًا. وسعت هذه الأقليّة، في الأساس، وراء إجراءات وقائيّة تضمن أقلّ ما يمكن من مسٍّ بامتيازاتها من قبل حكم الأكثريّة، في حين رغبت الأكثريّة في أقلّ ما يمكن من تقليص في سلطتها لضمان قدرتها، في النهاية، على إحداث تغيير في مجتمع جنوب أفريقيا لمصلحة الجميع. لقد تمحور جوهر الخلاف حول ما إذا كان حكم الأكثريّة يتمتّع بالأهليّة، وإلى أيّ مدى، ضمن النّظام الجديد.

 

 

 



النظام الدّستوري

قال ممثّلو الأقليّة، مرارًا وتكرارًا، في أواخر الثمانينات، إنّهم لا يفضّلون وضعيّة "الفائز يأخذ كلّ شيء"، فهم لم يريدوا أن تقمعهم الأكثريّة. وقد بدا الأمر ساخرًا، في حينه، أن تطلب الأقليّة التي كانت سماتها الأساسية السيطرة الوحشيّة اللاأخلاقية وقمع الأكثريّة، الحماية من الأكثريّة. وقد عبّر نيلسون مانديلا، رئيسنا الأوّل والموقّر، بوضوحٍ، عن رؤيا المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ في بداية عمليّة المفاوضات؛ لن تكون الأغلبيّة البرلمانيّة هي السلطة العليا في نظام جنوب أفريقيا المستقبلي، بل الدّستور، وستكون جميع القوانين وأعمال الحكومة خاضعةً للدّستور. كان النّظام الدّستوريّ، في السّياق الجنوب أفريقي، مقيّدًا لحكم الأكثريّة. وقد أتاحت هذه الرؤيا الشّروع في عمليّة التّفاوض.

 

 

دارت إحدى القضايا التمهيديّة حول من سيقوم بإعداد الدّستور، وكيف سيتمّ ذلك. وطلبت الأكثريّة أن يتمّ ذلك من قبل ممثّلين شرعيين عن الشّعب الجنوب أفريقي بمشاركتهم الكاملة، في حين ادّعت الأقليّة أنّ كتابة الدّستور هي من اختصاص المحامين والخبراء السياسيين ذوي الإلمام والخبرة، وهم الذين سيقرّرون ما هو ملائم للجميع. وتمّت تسوية هذا النقاش عن طريق الاتّفاق على ما يمكن تسميته بعمليّة صنع الدّستور ثنائيّة المراحل.

 

في البداية كان ثمّة دستور مؤقَّت اتّفق عليه المفاوضون وحظيَ بدعم برلمان الأقليّة. لقد أمّنَ هذا الدّستور مبدأ "شخص واحد صوت واحد"، وحماية بعض الحقوق الأساسيّة، وأن يحكم الدولة ممثّلون منتخبون، في حين يتمّ إعداد الدّستور النّهائيّ وتبنّيه. وقد لبّى الدّستور المؤقّت احتياجات المرحلة الثّانية. وكانت هناك جمعيّة تشريعيّة دستوريّة مخوَّلة بتبنِّي الدّستور النّهائيّ.

 

لكن، كانت صلاحيّات الجمعيّة التَّشريعيّة محدودةً. فقد قيَّدتها مبادئ دستوريّة معيّنة تمّت بلورتها لتكونَ جزءًا من الدّستور المؤقّت. فكان هناك 34 مبدأً من هذه المبادئ التي شكّلت إطارًا حُظرَ على الجمعيّة التّشريعيّة تخطّيه. وقد فرضت هذه المبادئ، ضمنَ أشياء أخرى، تحصين حقوق الإنسان الأساسيّة المقبولة عالميًا، وتقسيم السّلطة بين حكومة وطنيّة وحكومات إقليميّة، وتركيبات حكوميّة محلّية، وسلطة قضائيّة واحدة مستقلّة، والمساواة. وأودّ أن أقول هنا إنّ عمليّة وضع الدّستور ثنائيّة المراحل، ومن خلال تقييدها لصلاحيّات الجمعيّة التَّشريعيّة الدّستوريّة، كانت هي أيضًا، في الحقيقة، تلائم تقييد لتوجّه الأكثرية.

 

 

 



المحاكم

إنّ قبول مجتمع بالدّستور كسلطة العليا وإلزام الجمعيّة التّشريعية الدّستورية بالإذعان لمبادئ دستوريّة معيّنة، وضعا السّلطة القضائيّة وسيرورة تحوّلها في حالةٍ من الارتياح الشّديد. وستقوم المحاكم، في نهاية المطاف، بحماية نظام الدّستور الجديد. لقد كانَ جميع القضاة، تقريبًا، في جنوب أفريقيا، خلال فترة المفاوضات، من الذّكور البيض الذين عيَّنهم وزير العدل في نظام الأقليّة، وهم من المنتفعين من نظام الأبرتهايد. ولم تكن لمعظمهم تجربة تقييم الأعمال الحكوميّة مقابل الدستور. وقام هؤلاء القضاة، من خلال الأحكام التي أصدروها في جنوب أفريقيا، ما قبل العام 1994، بالفصل ما بين واجب القاضي في تفسير القانون وبين واجب البرلمان في صنعه. وقد قام هؤلاء القضاة، في معظم الحالات، تقريبًا، بتطبيق القوانين المُجحفة من دون أيّ تعليق عليها. وبالطبع، كان هنالك قضاة استثنائيون حاولوا، جاهدين، تفسير هذه القوانين بشكلٍ منصفٍ، وانتقدوا القوانين المُجحفة وعارضوا شرور الأبرتهايد.

 

 

 

كانت وجهة نظر الأقليّة خلال عمليّة التفاوض تقول إنّه يجب على محكمة الاستئناف، أعلى المحاكم آنذاك، أن يؤدّي دور المحكمة الدّستوريّة، بينما طلبت الأكثريّة محكمة جديدة تكون حارسةً لدستور جنوب أفريقيا؛ محكمة دستوريّة تدلّل على التوقّف التامّ والحازم عن الإجحاف وعدم المساواة السّابقين. ومن الممكن أن تكون هذه بمثابة بداية جديدة للنّظام الدّستوري العادل والإنساني. وتوصّل الطرفان، أخيرًا، إلى تسوية تدمج ما بين القديم والحديث، أي أن تتشكّل محكمة دستورية جديدة تتألّف من أحدَ عشرَ قاضيًا، من بينهم أربعة قضاة من هيئة القضاة القديمة.

 

 

 

لكن، لم يكن من المفروض أن يكتمل تحوّل النظام القضائيّ مع فكرة المحكمة الدّستورية وحدها. فقد رفض الطَّرفان رفضًا تامًا فكرة أن تعيّنَ النُّخبةُ الحاكمة وحدَها القضاة، حتّى لو كانت تلك النُّخبة هي الممثّلة الحقيقيّة للأكثريّة. وأعتقد أنّ الأقليّة فهمت جيدًا إلى أيّ مدى يمكن تهديد مكانة استقلالية سلطة قضائيّة ما عن طريق تعيين قضاة بموجب تلك الطَّريقة. إنّ الدّستور يتيح إمكانيّة تعيين مفوّضيّة الخدمات القضائيّة التي تتألّف من أكثر من عشرين عضوًا، ويترأسها رئيس المحكمة الدستورية، وهي تمثّل السّلطة القضائيّة ومهنة القانون والحيز السياسيّ والمجتمع المدنيّ. وتقدّم هذه المفوّضية الاستشارة للرّئيس في ما يتعلَّق بتعيين القضاة في المحكمة العليا، ويكون الرئيس ملزمًا بقبول تلك الاستشارة. ويعيّن الرئيس قضاة المحكمة الدّستوريّة من بين الأشخاص الذين أوصت بهم مفوّضيّة الخدمات القضائية. ويُلزم الدّستور مفوّضية الخدمات القضائية بأن تأخذ بالحسبان ضرورة ضمان تمثيل السّلطة القضائيّة لمُكَوِّنَي العرق والجندر في مجتمع جنوب أفريقيا. وهكذا يجعل دستورنا التحوّل القضائيّ قابلاً للتنفيذ. إنّ تطبيق الحقوق الأساسيّة النهائيّ والفعّال في جنوب أفريقيا، يعتمد، إلى حدّ كبير، على نجاح التحوّل القضائيّ الذي ينصّ عليه الدّستور.

 

 

 



الحقوق الأساسية

لم يشكّل تضمين حقوق الإنسان السياسيّة الفرديّة والمدنيّة المقبولة عالميًا عقبةً. فقد اعتبرتِ الأقليّة تضمين هذه الحقوق في الدّستور أمرًا جوهريًا لحمايتهم، في حين أرادت الأكثريّة هذه القوانين لأنّ انتهاك الحكومة لها وإفراطها في ذلك شكّلا جزءًا أساسيًا من المحافظة على الأبرتهايد والإجحاف.

 

مع ذلك، ثمّة مجالات هامّة للنّقاش تنبع من نقاط انطلاق متباينة جوهريًا بين الأكثريّة والأقليّة، على التوالي. لقد طلبت الأكثريّة أن يتجاوز ميثاق الحقوق حمايةَ الحقوق المدنيّة والسياسيّة الفرديّة، وأرادت إجراء تغييرات جوهريّة لا مجرّد فقرة شكليّة تتعلّق بالمساواة؛ أرادت تضمين الحقوق الاجتماعيّة- الاقتصاديّة في الدّستور، إضافةً إلى شمل حقوق العمل. لم يكن ممثّلو الأقليّة متلهّفين، بشكلٍ خاصّ، في ما يتعلّق بهذه القضايا. وفي اعتقادي، دارت الخلافات الأساسيّة بين الطَّرفين حول مدى ما سيسهّل فيه ميثاق الحقوق عمليّة تحوّل مجتمع جنوب أفريقيا. سوف أتناول بعض النّقاشات ذات الصّلة بالموضوع باقتضاب، وسأبدأ بالمادة المتعلّقة بالمساواة.

 

تتعلّق المادّة 9 من الدّستور بالمساواة، وأعيد إيرادها في الملحق أ. لو اقترحت الأكثريّة ألاّ تقول فقرة المساواة أكثر من أنّ الجميع متساوون أمام القانون، ربّما لما كان هناك نقاش حول هذا الموضوع، إذ أنّ الأقليّة كانت سترى في ذلك أمرًا مقبولاً عليها. وقد أدّى تضمين عبارة "الإستفادة المتساوية من القانون " في المادّة الفرعيّة (1) إلى بعض المناقشات، كما تمّت مناقشة المادّة الفرعيّة (2). ولم ترَ الأقليّة ضرورةً في تضمين هذه المادّة الفرعيّة في الدّستور، وعبّرت عن خشيتها من أن يؤدّي هذا العمل الإيجابيّ إلى "تمييز عكسيّ". تتيح المادّة الفرعيّة (2)، كما تمّ الاتّفاق عليها في النهاية، مساواةً جوهريّةً أكثر من تلك المساواة التي أرادتها الأقليّة في البداية، وهي تمهّد لبعض الإعمال التي ستقوم بها الحكومة من أجل تحقيق المساواة. ويعني ذلك أنّ هذه المادّة الفرعيّة تثبّت فكرة كون حقوق الإنسان متداخلة، في الحقيقة، وهي تقرّ بضرورة تنفيذ الكثير من العمل من أجل التخلّص من اللامساواة السّائدة في مجتمعنا.

 

وكان هنالك، أيضًا، اختلاف على أسس تضمين حظر التّمييز في الفقرتين الفرعيّتين (3) و (4). فقد كان هناك تحفّظ ما بشأن تضمين التوجّه الجنسي كأساس، استنادًا إلى أنّ ذلك قد يؤدّي إلى ما تمّت الإشارة إليه على أنّه "نتائج غير متعمّدة". كان من الممكن أن يكون العديد من المشاركين راضين أكثر لو كان العرق والجندر هما الأساسين الوحيدين لحظر التَّمييز.

 

اعتقدت الأكثريّة أنّ عدم التّمييز كان أمرًا أساسيًا نحو التحوّل الفعّال وأنّه لا يكفي إلقاء واجب عدم التّمييز على الدولة فقط. لقد توجّب التخلّص من التّمييز بسرعة وبنجاعة، وكان هذا الهدف هامًا بما فيه الكفاية لحظر جميع النّاس من الضلوع في التمييز. وأدرك مفاوضو الأكثريّة، بوضوحٍ تامٍّ، أنّ توفّر الحماية من التّمييز المباشر فقط لن يكون كافياً، إذ أنّ التّمييز المباشر قد يكون على نحو مخادع. كذلك فقد كان قلق الأكثريّة يكمن في أنّه قد يكون من الصَّعب إثبات حدوث التمييز. وكانت وجهة نظر الأقليّة أنّ حظر الدَّولة للتّمييز سيكون كافيًا، وأنّ حظر التّمييز غير المُباشر وما ينتج عنه من عبء لمصلحة الفرد الذي يدّعي التّمييز ضدّه، هو أمر غير ضروريّ. لقد دارَ نقاشٌ طويلٌ ومُضنٍ قبل المُصادقة على الفقرات المناهضة للتّمييز التي تحظر التّمييز المباشر وغير المباشر، وإلقاء مسؤوليّة عدم التّمييز على الأفراد وعلى الدولة، أيضًا، والتسليم بأن التّمييز هو أمر مجحف. (يُنظر الملحق أ).

 

لقد ناقشنا في هذا المؤتمر، حتّى الآن، الحقوقَ الاجتماعية- الاقتصاديّة، بشكلٍ مفصَّلٍ. ويكفي أن نقول هنا إنّه دار الكثير من النّقاش حول ما إذا كان يترتّب تضمين الحقوق الاجتماعية- الاقتصاديّة في الدّستور. وتعترف الصيغة التي عُرضت بها هذه الحقوق في الفِقرتين 26 و 27 من الدّستور (الواردة في المُلحق أ) بحقيقة عدم إمكانيّة تلبية جميع الحقوق الاجتماعية- الاقتصاديّة بشكلٍ كاملٍ وعلى الفور، لكنّها تبرز الفكرة القائلة بأنّه لا يمكن ترك الحكومة تتصرّف وفق ما يحلو لها في اتّخاذ القرارات المتعلّقة بكيفيّة تحقيق هذه الحقوق. وهكذا، فإن هذه الحقوق تحتّم مراقبة قضائيّةً ما حول نشاط الحكومة.

                                      

كانت نقطة انطلاق الأقليّة في ما يتعلّق بحقوق العمل أنّها غير ضروريّة، قطعيًا، في نظام دستوريّ جديد، وأنّ الحقوق المدنيّة والسياسيّة التقليديّة كافيةٌ. أمَّا الأكثريّة فكان موقفها بأنّه يجب حظر الاستغلال في العمل، وأنّ على وثيقة الحقوق أن توفّر ظروف عمل منصفة. وسرعان ما أتّفق الطّرفان فيما بينهما على أنّ ظروف العمل المنصفة تخصّ كلاً من العمّال وأرباب العمل. وفي النّهاية، وصل النّقاش المتعلّق بظروف العمل المنصفة إلى حالة من التوازن اللائق بين حقوق العمّال من جهة، وحقوق أرباب العمل، من جهةٍ أخرى. وتعكس الفقرة 25 الحاليّة من الدّستور (الواردة في الملحق أ) حالة التوازن تلك. يمكن أن نرى أنّ هذه الفقرة توفّر حقوقًا تنظيميّة وحقوقًا أخرى للعمّال ولأرباب العمل، باستثناء أمر واحد، وهو أنْ يتوفّر للعمّال وحدَهم حقّ الإضراب وحقّ الدخول في عقد عمل جماعيّ.

 

أدّى التوتّر بين حريّة الديانات والحقّ في الممارسة الثقافية من ناحية، وبين حقوق الإنسان الأساسية، من ناحية أخرى، إلى نقاش حادّ. وينعكس التوازن الذي تمّ التوصّل إليه، أخيرًا، خلال عمليّة التفاوض في الفقرتين 15 و 31 من الدّستور (يُنظر الملحق أ)، وهو يخصّ "حريّة الديانة والمعتقد والرأي" وكذلك "المجتمعات الثقافية والدينيّة واللُغويّة"، على التوالي. وسوف أعرض الآنَ بعض العناصر البارزة في هذا الحلّ الوسط: تضع الفقرة الفرعيّة 15(2) شروطًا معيَّنة لممارسة الشّعائر الدينيّة في المؤسّسات، وهي تهدف إلى ضمان أدائها على أسسٍ عادلة، وأن لا يكون أحد مرغمًا على المشاركة فيها. وتتيح الفقرة 15(3)، بشكلٍ جليٍّ، سنّ قوانين تقرّ بالزّواج التقليديّ وبحالات الزواج الأخرى وبأنظمة القوانين الشّخصية والعائليّة بموجب أيٍّ من التقاليد، إلا أنّه يجب أن يتوافق هذا الإقرار مع الدّستور. وتنصّ الفقرة 31 على أنّه لا يجوز حرمان النّاس من حقِّهم في التمتّع بثقافاتهم ومن ممارسة ديانتهم، لكنّها توضّح، مرّة أخرى، أنّه لا يمكن ممارسة تلك الحقوق بطريقة لا تتوافق مع ميثاق الحقوق. يمكن الادّعاء بأنّ الحقوق الأخرى في الميثاق محميّة بشكلٍ أفضل من التقاليد والمُمارسة الدينية. إذ من الصّعب التّعبير بمصطلحات دقيقة عن التوازن الذي تمّ السعيّ إلى تحقيقه بين تطبيق المساواة، مثلاً، وبين التّسامح إزاء عدم المساواة في الممارسة الدينية، ومن المرجّح أن يخلق هذا الأمر تحدّيات جدّية للمحكمة الدّستورية في المستقبل.

 

 

 



الخلاصة

يمكن القول، باقتضاب، إنّ دستورنا، وخصوصًا ميثاق الحقوق الخاصّ بنا، يمثّل تقييدًا لحكم الأكثريّة. صحيحٌ أنّ الدّستور يحدّ من عمل الحكومة، لكنّه يقوم بأكثر من ذلك بكثير. إذ يمثّل دستورنا نظامًا من القِيم بعيدًا كلّ البعد عن مجتمع تكون فيه الأكثريّة دائمًا على صواب، أو مجتمع تكون فيه القوّة محقَّة على الدّوام. إنّ مجتمعًا من هذا القبيل ليس أفضلَ بكثيرٍ من مجتمع يبجّل قانون الغاب. ويلزم دستورنا مجتمعنا بالعناية بالأقليّات والمُستضعفين وبضحايا سوء المعاملة والتّشهير، وتمكينهم. فعلى سبيل المثال، تضمن أسس عدم التّمييز في الفقرة الفرعيّة الخاصة بعدم التّمييز حماية فئات الناس المستضعفة وعديمة القدرات؛ المادة الخاصة بحريّة التّعبير تحمي، عمليًا، حرية التعبير لدى الأقليّة حتّى لو لم يكن ذلك مقبولاً على الأكثريّة، حريّة الديانات تحمي هؤلاء المستضعفين المنتمين إلى مجموعات أقليّة دينية ؛ المادة الخاصة بالمحاكمة العادلة تحمي المستضعفين المتَّهمين بارتكاب جريمة ما، وهكذا دواليك. أَوَدّ أن أشدِّد هنا على أنّ المجتمع يمنح هذه الحماية للمستضعفين وعديمي القدرات، ليس من أجلهم، وليس كمعروفٍ يصنعونه لهم، وإنما لمصلحة المجتمع ذاته وجميع أفراده، ومن أجل أن يترعرع نظام من القيم يمكن الدّفاع عنه. إنّ فكرة وجود أمور معيّنة يتعيّن عدم إتاحة المجال أمام الأكثرية القويّة والجبّارة القيام بها بتاتًا، وأنّ لدى المجتمع أكثر من مجرّد التزام أخلاقيّ تجاه المستضعفين وعديمي القدرات، هي فكرة لا تبعث على الأسى، وليست مجرّد تقييد لحكم الأكثرية. وهي أيضًا أكثر من مجرّد فكرة. إنّها مبدأ دستوريّ أساسيّ وجزء لا يتجزأ من إنسانيتنا. من الممكن أن يشكّل ميثاق حقوق ملائم تقييدًا لسلطة الأكثرية، ويمكنه أن يحدّ من سلطة الأكثرية، لكنّه لا يشكّل تقييدا للديمقراطية. ويمكننا الآنَ أن نضيف، بحقّ وحقيق، هذا المبدأ كعنصرٍ جوهري في تعريفنا للديمقراطية. وبذلك فإننا نقوم بتعزيز الديمقراطية وتحويلها إلى شيء أكثر من مجرّد مفهوم ميكانيكيّ. وسأختتم كلامي بالتّعبير عن الأمل في أن تتبنّى جميع الشّعوب والأمم التوجّه الذي يوصي به دستورنا. وإذا حدثَ ذلك فقد تصبح الإنسانية والسلام أمرين ممكنين مستقبلاً.                                     

 

 


 



الملحق أ

 

9. المساواة

 

(1)   كلّ فرد متساو أمام القانون وله الحقّ في حماية القانون والاستفادة منه على نحو متساوٍ.

 

(2)   تتضمّن المساواة التمتّع الكامل والمتساوي بالحقوق والحريّات. ومن أجل الدفع قدمًا نحو تحقيق المساواة، يمكن اتّخاذ إجراءات تشريعية وإجراءات أخرى صُمّمت لحماية الأفراد أو مجموعات الأفراد الذين تضرّروا من التّمييز المجحف والسير بهم قدمًا.

 

 

(3)   لا يجوز للدولة أن تميّز، على نحو مجحفٍ، بشكل مباشرٍ أو غير مباشٍ، ضدّ أيّ شخص على أساس واحد أو عدد من الأسس، بما فيها العرق، الجندر، الجنس، الحمل، الحالة الشخصية، الأصول العرقية أو الاجتماعية، اللون، الميول الجنسيّة، السنّ، الإعاقة، الضمير، المُعتقد، الثّقافة، اللغة أو المنشأ.

 

(4)    لا يجوز لأيّ فرد أن يميّز، على نحو مجحف، بشكل مباشر أو غير مباشر ضدّ أيّ شخص على أساس واحد أو عدد من الأسس من حيث الفقرة الفرعية (3). يجب سنّ قوانين التشريعات الوطنية للحيلولة دون التمييز المجحف أو لحظره.

 

 

(5)    إن التمييز في أحد الأسس المدرجة في الفقرة الفرعيّة (3) أو أكثر، هو أمر مجحف إلا إذا ثبت أن التّمييز عادل.

 

 

15. حريّة الديانة، المعتقد والرأي

 

(1)    لكل فرد الحقّ في حرية الضمير، الديانة، التفكير، المعتقد والرأي.

 

(2)    تجوز ممارسة الشعائر الدينية في مؤسسات الدولة أو المؤسسات المموّلة من قبل الدولة شريطة أن:

(أ‌)      تخضع ممارسة الشعائر هذه للقوانين التي وضعتها السلطات العامة ذات الشأن؛

(ب) تُجرى على اساس متساو؛ و

(ج) تكون المشاركة فيها طوعيّة وبمحض الإرادة.

 

(3)           (أ) لا تمنع هذه الفقرة التّشريعات التي تعترف بـ:

(1)   الزيجات التي عقدت بموجب أيٍّ من التقاليد، أو النّظم الدينية، أي قانون شخصي أو عائلي؛ أو

(2)

ملفات متعلقة: