التعددية الثقافية/القومية: الداخلي (العربي) والخارجي (الدستوري)

د. مروان دويري | مجلة عدالة الإلكترونية، العدد 7، تشرين ثاني 2004
التعددية التي أدعو إليها لا تنحصر في النظام السياسي بل تتعداه لتكون موقفا اجتماعيا وقيميا وفلسفيا في كل شيء




فيليب أبيلويج - فرنسا



د. مروان دويري* | مجلة عدالة الإلكترونية، العدد السابع،  تشرين ثاني 2004

سأتطرق في هذا المقال الى مسألة التعددية بكلا جانبيها، الجانب الداخلي والذي يتطرق الى أهمية التعددية الثقافية داخل مجتمعنا العربي في اسرائيل،  المتعدّد والمتضارب في هوياته: القومية، الطائفية والحمائلية وحتى الجغرافية، والجانب الخارجي والذي يحلّل العلاقة الدستورية بين ألأقلية العربية ودولة إسرائيل، وهنا ساعرض أهمية ضمان الحقوق الجماعية الدستورية للمواطنين العرب، وسأدّعي في هذا السياق بأن الديموقراطية الليبرالية، حتى إذا حُقّقت دستورياً[1] ، فستبقى عائقاً أمام إحقاق مبادئ المساواة والعدالة بين المواطنين العرب واليهود.

 

التعددية Pluralism هي نظام وقيم يجرى عادة إلحاقها خطأ بالديمقراطية الليبرالية رغم الاختلافات الجوهرية بينهما. سأحاول في هذا المقال توضيح فكرة التعددية وحاجة مجتمعنا إليها وتوضيح  الديمقراطية الليبرالية ومخاطرها على مجتمعنا وذلك بناء على تحليل سوسيولوجي للمجتمع العربي بشكل عام ولمجتمعنا الفلسطيني في إسرائيل بشكل خاص.

 

المجتمع العربي متعدد دوائر الانتماء:

نحن مجتمع متعدد الانتماءات بحيث يتكون من دوائر انتماء مختلفة: قومية ومدنية وسياسية وطائفية وإقليمية وحمولية وغيرها. بعض هذه الدوائر تتقاطع، مما يجعل الفرد ينتمي إلى دوائر انتماء مختلفة في آن واحد كأن يكون مثلا عربيا وإسرائيليا وشيوعيا ومسلما وابنا لهذه القرية ولتلك الحمولة. لذلك فإن هذه الدوائر تشكل، بالنسبة للفرد الواحد، شرائح في تكوين هويته يكون ترتيبها من حيث الأهمية مختلف من فرد إلى آخر.

مع تعرض وجودنا القومي وهويتنا القومية للتهديد كان من الطبيعي أن نقوم، بوعي وبغير وعي، بمحاولة تغليب الهوية القومية على بقية الانتماءات الطائفية والحمولية بل والتنكر لهذه الإنتماءات على اعتبار أنها تتعارض وتضعف الانتماء القومي الذي يتعرض للتهديد والتصفية. من هنا نما موقف معادي لهذه الانتماءات ويعتبرها آفة يجب محاربتها أو اقتلاعها من صفوف وقلوب الناس. أحقا هي آفة؟ وهل يمكن أصلا اقتلاعها؟

 

الانتماء القبلي قوي وثابت عبر التاريخ العربي:

في دراستي للمجتمع العربي التي أوردتها في كتابي "الشخصية، الثقافة، والمجتمع العربي، 1997" يتبين أن الانتماء القبلي، بمعناه الواسع (القبلي، العشائري، الحمولي، العائلي)، كان وما زال أقوى الانتماءات وأثبتها عبر العصور التاريخية منذ الجاهلية وحتى الآن. يقول الباحث المغربي محمد عابد الجابري أن الدولة العربية الإسلامية بنيت على أساس قبلي وكانت بمثابة "نظام كونفدرالي" وحّد القبائل تحت رايته دون أن يفككها. الانتماء للإسلام أصلا، حسب رأيه، جرى بشكل قبلي وليس فردي خاصة في المراحل اللاحقة لانتشار الإسلام. توزيع النفوذ والمال وقيادة الجيش كانت على أساس قبلي وهكذا استمر الأمر حتى انهيار هذه الدولة. في عصر الانحطاط الذي تلا انهيار الدولة، استمرت القبلية بطبيعة الحال لتكون الانتماء الأقوى. مع تأسيس الأقطار العربية الحديثة في أعقاب اتفاقية سايكس بيكو لم تتلاشى القبلية، بل وبنيت معظم الدول العربية على أساس قبلي عشائري كما هو الحال في السعودية ودول الخليج والأردن والمغرب وغيرها. وحتى في الدول التي لا تبدو قبلية-عشائرية نلاحظ أن تقاسم النفوذ وانتقال الحكم يجري وفقا لنسق قبلي كما هو الحال في سوريا والعراق وغيرها.

 

في غياب خدمات الدولة تقوم القبيلة والحمولة بوظيفة بقائية:

في القرون الأخيرة تراجعت الانتماءات القبلية في أوروبا وشمال أمريكا وبدأ عصر الفردية Individualism أصبح فيه الفرد كيانا مستقلا معترف به وبحاجاته ورأيه وقيمه. فقط في هذه المرحلة بدأ الحديث عن حقوق المواطن وحرية الرأي وحرية التعبير. فقط في هذه المرحلة بدأ استعمال مصطلحات "الذات" و "الشخصية" بمفهومهما المعاصر إذ أن الفرد قبل عصر الفردية كان مجرد عضو في قبيلة يعرّف بانتمائه القبلي أو بالوظيفة أو الحرفة التي يقوم بها. من المهم الإشارة هنا إلى أن الفردية نشأت في الغرب كجزء من تطور اجتماعي وسياسي واقتصادي كان في مركزه التصنيع والتسويق الرأسمالي من جهة ونشوء الدولة القومية التي أخذت على عاتقها (فعليا أو ظاهريا) رعاية شؤون وحاجات مواطنيها من جهة أخرى. فقط بعد أن وفرت هذه الدول من خلال مؤسساتها واقتصادها مصدر الرزق للمواطنين ووفرت لهم معظم حاجاتهم البقائية تراجع الانتماء القبلي في أوروبا وأصبح الاصطفاف الاجتماعي ذات طابع طبقي، وعندها أصبحت الأحزاب بمثابة النظام الذي يمثل مصالح هذه الطبقات في المجتمع.

في نظام فردي يعترف بالفرد وبحاجاته وبحريته وبحقه في تحقيق ذاته والتعبير عن رأيه تبدو قيم الديمقراطية الليبرالية نظاما يتلاءم مع هذا التطور، بل ربما نظاما ضروريا لتكريس هذا التطور إذ أنه وفر للفرد الشعور بالحرية والشعور بقدرته على التأثير (الحقيقي أو الوهمي) من خلال الآلية الديمقراطية، لكن في نفس الوقت وفر لمراكز القوى الاقتصادية آليات سيطرة غير مرئية على المواطنين وعلى عقولهم. من يحلل طبيعة النظم الغربية يدرك مدى سيطرة رأس المال على الحكم وعلى البناء الاجتماعي والثقافي (إقرأ كتاب نذر العولمة لعبد الحي زلوم).

التطور اجتماعي-اقتصادي-سياسي الذي مهد لظهور الفردية في الغرب لم يحصل في بقية المناطق في العالم. الدول العربية ما زالت تفتقر للتصنيع وبعيدة كل البعد عن دولة المواطنين الأمر الذي يجعل الفردية وقيمها الليبرالية أمر غريب في العالم العربي ويبقي الانتماء القبلي ثابتا بحكم كونه الكيان الذي يوفر الرعاية والدعم الذي لم توفره الدولة بعد. غياب التصنيع وخدمات الدولة في الصعيد المصري مثلا يجعل الانتماء القبلي هناك بمثابة "الدولة" التي توفر الحاجات البقائية للناس هناك. هكذا هو الأمر لدى ملايين المواطنين السعوديين أو المغربيين أو الليبيين خارج المدن الذين لا تصل إليهم خدمات الدولة مما يبقيهم يعولون على قبائلهم في بقائهم. كذلك هنا في إسرائيل، فرغم أن المواطنين العرب يعيشون في دولة ديمقراطية، إلا أنهم بسبب التمييز ضدهم لا يعتمدون في كثير من الخدمات على الدولة. فمثلا يعول الشباب العرب على عائلاتهم الموسعة في توفير عمل ومسكن أكثر مما يعولون على مكاتب العمل أو وزارة الإسكان مما يجعل الانتماء الحمولي قويا وثابتا يكاد يضاهي الانتماء القومي من جهة ويضاهي الهوية الشخصية-الفردية من جهة أخرى.

 

الهويات القومية والدينية والحمولية:

بعد أن رأينا أن الحمولة تقوم بوظيفة بقائية هامة نسأل وماذا عن الهوية القومي؟ برأيي أن الهوية القومية تكتمل حين يجري تجسيدها وممارستها في إطار دولة قومية ترعى شؤون مواطنيها وحاجاتهم عندها يشعر المواطنون بانتماء حميمي للدولة، أما حين لا يتم تحقيق ذلك فتبقى الهوية القومية ذات طابع كفاحي. من هنا فالهوية القومية تتكون من مركب كفاحي ومركب انتمائي. يكون المركب الكفاحي للهوية القومية بارزا في المرحلة التي يدافع فيها شعب ما عن هويته وبقائه أمام معتد ينتهك الحقوق القومية لذلك الشعب كما هو حال شعبنا الفلسطيني. أما المركب الانتمائي للهوية القومية فيبرز حين تتجسد الهوية القومية في دولة قومية تحمي أصحابها وترعاهم، عندها يشعر المواطن بانتماء قومي لهذه الدولة التي تصبح بمثابة "الأب والأم" لهذا المواطن.

الهوية القومية العربية وكذلك الهوية الفلسطينية هما هويتان كفاحيتان أكثر مما هما انتمائيتان. الهوية القومية العربية برزت كهوية متميزة عن الهوية الإسلامية في أوخر العهد العثماني. في أواخر ذلك العهد حين شعر العرب بأنهم يعانون ظلم الحاكم "المسلم وغير العربي" انطلقت أصوات القوميين العرب لتدعو إلى حقوق العرب. في تلك الفترة بدأت الهوية القومية العربية تنفصل وتتمايز عن الهوية الإسلامية بعد أن كانتا هويتان شبه متطابقتين على مدى قرون عديدة (عدا فترات محددة كفترة ظهور الشعوبية التي حاول المسلمون غير العرب التصدي للهيمنة العربية على الدولة الإسلامية). الهوية الفلسطينية أيضا هي هوية كفاحية نشأت أثناء مواجهة الصهيونية التي استهدفت الأرض الفلسطينية. رغم مرور عدة عقود على نشوء حركات الوحدة العربية وعدة عقود على استقلال الدول (الأقطار) العربية إلا أن النظام السياسي العربي لم يستطع توفير الرعاية الكافية للمواطن العربي التي كان من شأنها بلورة وتجسيد الهوية القومية الانتمائية. كذلك الهوية الفلسطينية لم تصل إلى تجسيد المركب الانتمائي وذلك نظرا لغياب الدولة الفلسطينية. ليس أن الفلسطيني (أو العربي) لا يهنأ برعاية دولة، بل إنه في كثير من الأحيان يدفع ثمنا شخصيا أثناء نضاله من أجل هويتة الفلسطينية.

 

التناقض بين الهويات ليس حتمي:

لا أعتقد أن هناك شعب في العالم المعاصر يعيش في حالة انتماء أحادي. تعدد دوائر الانتماء والهويات هو أمر إنساني عام ولو أنه تتغلب، في ظرف معين، هوية ما على غيرها من الهويات. لذلك، ورغم تفهمي للرفض الدفاعي لهوياتنا الحمولية والطائفية حفاظا على هويتنا القومية، إلا أن في المبالغة في هذا المسلك أمر غير إنساني لا يصمد في محك الواقع.

في قراءة للمسيرة النضالية لشعبنا يمكن أن نرى الدور الرجعي وربما الخياني الذي لعبته الانتماءات الطائفية والحمولية، ولكن يمكن أيضا أن نرى الدور الوطني لهذه الانتماءات. لذلك فعلينا تحاشي التقييم المبسط لدور هذه الانتماءات الفئوية بل علينا قراءة دورها ضمن الصورة المركبة لمسيرتنا النضالية.

لجنة المبادرة الدرزية مثلا تنظيم ذات طابع طائفي ومع هذا، ألا يعتبر تنظيما وطنيا أيضا؟ تنظيمات البدو في النقب ولجان إقرث وبرعم هي تنظيمات فئوية وإقليمية ومع هذا فهي تقع في المعسكر الوطني المواجه للاضطهاد والتمييز. هنالك شخصيات دينية كان لها دور وطني هام ابتداء من محمد عبده ورفاعة الطهطاوي ومرورا بعز الدين القسام والحاج أمين الحسيني والمطران كبوشي ووصولا إلى القس شحادة شحادة والشيخ رائد صلاح وغيرهم من الشخصيات الدينية الوطنية. ومن جهة أخرى فإن جميع الأحزاب الوطنية تأخذ في اعتبارها التركيبة الطائفية والحمائلية أثناء تشكيل قوائمها الانتخابية، محاولة بذلك تطويع أو توظيف هذه الانتماءات في المعركة الوطنية. كل هذه القراءات تشير إلى أن هذه الانتماءات الفئوية يمكن أن تكون معادية للتيار القومي أو أن تنسجم معه وتدور في فلكه. وهنا تأتي أهمية التعددية نهجا وقيما التي باستطاعتها جعل هذه الانتماءات في حالة تكامل بداخل الدائرة القومية بدل حالة التمزق والشرذمة.

 

التعددية والديمقراطية:

الديمقراطية أو "حكم الشعب" يمكن أن تمارس بعدة أشكال من بينها الشكل التعددي والشكل الليبرالي. الشكل الليبرالي هو الشكل الأكثر انتشارا في المجتمعات الفردية والتي تتشكل فيها الأحزاب على أساس طبقي أو أيديولوجي كالأحزاب الشيوعية والاشتراكية والليبرالية والمحافظة والقومية وغيرها، والذي يتم وفقه الحسم بناء على الأغلبية العددية للمواطنين. هنالك بعض الدول واجهت حقوق الأقليات أو القوميات فيها بواسطة انتهاج ديمقراطية تعددية (أو إثنية) كسويسرا وكندا وبلجيكا وجنوب أفريقيا وغيرها من الدول. في هذه الدول يعترف نظام الدولة بالأقليات القومية والإثنية وحقوقها الجماعية لذلك فهو يعطيها وزنا دستوريا في عملية اتخاذ القرارات للحفاظ على حقوقها رغم كونها أقلية عددية في الدولة.

 لقد جرت محاولات لنقل الديمقراطية الليبرالية إلى مجتمعات جماعية-قبلية عديدة فكانت النتيجة أن تكونت الأحزاب على أساس قبلي (وليس طبقي أو سياسي) وجرى التصويت بشكل قبلي أيضا. في اليمن مثلا، الذي هو مجتمع ذات مبنى قبلي ممأسس ومتجذر لكل قبيلة فيه اقتصادها وجيشها، أقيم برلمان وتشكلت أحزاب كمحاولة لتطبيق الديمقراطية الليبرالية إلا أن هذه العملية لم تفكك القبائل بل حولتها إلى قبائل بلباس أحزاب برلمانية. حين يكون الاصطفاف الاجتماعي طبقيا كما هو في الغرب تتكون الأحزاب على أساس طبقي-ايديولوجي أما حين يكون الاصطفاف قبليا فتأتي الأحزاب على أساس قبلي. في لبنان الذي خطى خطوات متقدمة نحو الديمقراطية لم تستطع الأحزاب تفكيك التركية الطائفية للمجتمع بل تشكلت هذه الأحزاب على أساس طائفي. وفي داخل إسرائيل أيضا يغلب على سلوك المواطنين العرب السياسي الطابع الحمائلي وأحيانا الطائفي خاصة في الانتخابات المحلية. كل هذه المشاهدات تدل على أن تفهم وظيفة هذه الانتماءات والتعامل معها أمر لا بد منه، وبأنه من غير الممكن وغير المنصف أن نتجاهل أو ننكر وجودها أو أن نتعامل معها على أنها آفة يجب اقتلاعها.

أعتقد أن مصلحتنا الوطنية وحفاظا على هويتنا القومية تحتم علينا قراءة واقعنا الاجتماعي بشكل صحيح وتفهم مبناه الجماعي-القبلي واتخاذ التعددية نهجا وقيما تحافظ على هذا الفسيفساء الاجتماعي تحت مظلة قومية واحدة. التعددية تقبل وتتعامل مع وجود دوائر الانتماءات المختلفة وتزيد من تماسك هذا الفسيفساء في "كل" قومي وتحول دون شرذمته. التعددية تعني إعطاء حيزا للآخر (السياسي والطائفي والحمولي) بداخل الدائرة القومية وتعني أن تحل قيم التقبل والاحترام المتبادل محل قيم التعصب من جهة ونهج الموقف الأحادي الذي يفرض على الجميع من جهة أخرى. هذا يعني أن يتعامل كل حزب سياسي مع الحزب الآخر على أنه حزب يستمد شرعيته بكونه يمثل فئة من فئات شعبنا وعلى أن معاداته تعني معاداة فئة من هذا الشعب. هذا يعني أن تتعامل كل طائفة وكل حمولة مع بقية الطوائف وبقية الحمائل على أنها جزءا لا يتجزأ من النسيج القومي يحق له الحظي بحصته وحيزه في الفضاء القومي. 

 

الديمقراطية الليبرالية وسيلة سيطرة على الأقليات

الديمقراطية الليبرالية تعترف بحكمُ الأغلبية العدديةِ على الأقلية ولا تعترف بالحقوق الجماعية للأقليات، وبالتالي ففي كثير من الأحيان تكون آليةٍ شرعيةٍ لاضطهاد الأقلياتِ باسم القانونِ والشرعية. معظمُ الأقليات في العالم تضررت من الديمقراطية الليبرالية التي تعطي للأغلبية حقَ القرارِ المطلق وإمكانية السيطرة على الأقليات. تجربة الفلسطينيين في إسرائيل هي مثال على أن الديمقراطية الليبرالية المعتمدة في الدولة تتناقض مع المصالح الجماعية للأقليات. من خلال هذه الديمقراطية تم تمريرُ جميعِ المخططات الصهيونية من تهجير وهدم قرى كاملة ومصادرات أراضي وهدم بيوت بحجة البناء غير المرخص وغيرها من أشكال الاضطهاد القومي. هذه الديمقراطية قادرة في ظروف معينة أن تمرر قوانين ابارتهايد أو ترانسفير باسم القانون وحكم الأغلبية. ومن جهة أخرى لم تعترف هذه الديمقراطية ُ الإسرائيلية بأي حقٍ جماعيٍ للمواطنين العرب فيها على مدار 56 سنة. من هنا نرى أن هذه الديمقراطية هي أداة لسيطرة الأغلبية على الأقلية وتقوم بدور الغطاء للممارسات أللا إنسانية باسمِ القانونِ والشرعيةِ والديمقراطية. من هنا يجب الانتباه إلى أن الديمقراطية لا تعني العدل، بل هي نظام تحكم بالأقلية وإعطاءها فقط ما تراه الأغلبية من حقوق وحريات. وجب هذا التنبيه لأنه يجري استعمال كلمة الديمقراطية في حوارنا السياسي على أنها مرادفة للعدل فيقال أن هدم البيوت أمر غير ديمقراطي أو اعتقال نشطاء سياسيين أمر مناف للديمقراطية وهذا غير صحيح، لأن كلا الفعلين ديمقراطيين طالما أن الغالبية شرعت الأنظمة والقوانين للقيام بهما. أجل هذه هي الديمقراطية الليبرالية والتي يمكن أن تكون بعيدة كل البعد عن العدل بالنسبة للأقليات.

 

مقارنة الديمقراطية التعددية بالديمقراطية الليبرالية:

·                    التعدديةُ تعترف بالمجموعات: بخلاف الديمقراطية الفردية التي تتعامل مع الناس على أنهم مجموعة أفراد، تعطي التعدديةُ شرعيةً للمجموعات (السياسية والثقافية والعرقية والقبلية والطائفية) ولحقها بالبقاء وممارسة دورها كمجموعة في النظام السياسي للدولة. إنها "اتفاقية تعامل" بين مجموعات وليست بين أفراد مستقلين وغير منتمين.

·                    التعدديةُ تحفظ حقوق الآخر: التعددية تنطلق من رؤية الذات والآخر في "كل" واحد وتدفع نحو موقف "يعطي" للآخر في نفس الوقت الذي "يأخذ" للذات. أما الديمقراطية الليبرالية فتنطلق من مصالح "الذات"  الفردية أو الجماعية أولا، أما الآخر فليتدبر. لذلك فالتعددية هي آلية وقيمة تحول دون اضطهاد أو استقصاء مجموعات معينة في مجتمعنا.

·                    التعددية أداة مصالحة وتعايش: الديمقراطية  الفرديةُ أداة غلبة (تغليب الأكثرية على الأقلية) بينما التعددية  أداة مصالحة وتعايش وفسح المجال للآخر لينسجم في فسيفساء المجتمع الواحد ويسهم في إضفاء لون وطعم خاصين. إن فرض الديمقراطية الليبرالية في مجتمع جماعي من شأنه جعل مجموعات الأقلية المبعدة أن تلجأ للسلاح والعنف أو جعل مجموعة السلطة المهددة أن تتراجع عن الديمقراطية (كما حصل في الجزائر مثلا).

·                    التعددية فكر ينبذ التعصب: بعكسِ التعصب القبلي، التعددية  فكر وموقف تتثقف فيها الأجيال على أن هنالك أكثر من "صح" واحد وبأن تحقيق الذات الجماعية والفردية يتم بموازاة مع ضمانِ ذات الآخر وحقوقه الجماعية (أنا وأنت معا). 

·                    التعددية آلية تحريك: التعددية ليست آلية  تكريس للوضع القبلي القائم بل هي آليةَ تفاعل وتحرك تمكن الأفراد والجماعات من التفاعل فيما بينها بشكل صحي وبالتالي الانتقال والتطور دون تغليب طرف على آخر. أعتقد بأن الحوار الاجتماعي الدائر في جو تعددي يسمح بالتغيير والتطور أكثر من الحوار الدائر في أجواء حرب تنفي شرعية الآخر. لذلك فالتعددية نهجا وموقفا من شأنها أن تدفع ثقافتنا الجماعية إلى الأمامِ نحو شيء جديد منبثق من ماضينا وتراثنا.

 

التعددية تعطي الجواب لقضايانا:

نواجه نحن المواطنين العرب في إسرائيل عددا من القضايا وعلى صعيدين: الصعيد المجتمعي الداخلي والصعيد الإسرائيلي، وكمجتمع عربي عام نواجه قضايا على الصعيد العالمي أيضا. على جميع هذه الأصعدة أعتقد بأن التعددية نهجا وقيما توفر الجواب الأنسب.

الصعيد المجتمعي الداخلي: نواجه صراعات طائفية وحمولية وحزبية وسياسة وثقافية مختلفة. بطبيعة الحال تقوم كل فئة (دينية أو حزبية أو الحمولية) بطرح خطابها ومصالحها على أنهما الجواب الشافي الوحيد. علما بأنه لا يمكن في هذا الواقع المتعدد أن يكون نهجا أحاديا ينطبق على الجميع لذلك فمحاولة فرض هذا النهج إنما ينصر فئة على أخرى وبالتالي يؤجج الصراعات ويهدد الوحدة الوطنية والنسيج القومي. لذلك فالتعددية التي تعطي لكل فئة مكانها ومكانتها وتعترف بحق المجموعات الأخرى أن تكون جزء من النسيج القومي هي الطريق نحو التماسك الوطني وتحايد العصبية. التعددية قيم يجب أن نربي أبناءنا وبناتنا عليها لكي يعتادوا التعامل مع الآخر باحترام وتسامح تحت مظلة قومية واحدة تشمل هذا الفسيفساء الاجتماعي وترى فيه غنى لا عدوا أو آفة. نهج التعددية يطرح هنا كبديل للنهج الأحادي الذي يريد أن يصنع من الجميع شيئا واحدا من جهة، وأيضا كبديل للنهج الفردي من جهة أخرى. كلا هذين البديلين يعملان على تفتيت الفئات المكونة لشعبنا مرة باسم القومية والوحدة ومرة باسم الفردية وحرية الفرد.

الصعيد الإسرائيلي: كما أشرت سابقا فإن الديمقراطية الليبرالية في إسرائيل لم تعترف بالحقوق الجماعية للمواطنين العرب من جهة، ومررت جميع المخططات الصهيونية من خلال آلياتها القانونية والتشريعية من جهة أخرى. لقد طالبت القيادات العربية حتى الآن بتغليب الديمقراطية على يهودية الدولة، معتقدة بأن الضرر يكمن في يهودية الدولة فحسب. أعتقد بأن ديمقراطية الدولة التي هي ديمقراطية ليبرالية ليست أقل خطرا من يهوديتها، إذ أنه طالما أن هنالك أغلبية يهودية فلا تناقض بين مصالح المواطنين اليهود وبين ديمقراطية الدولة، بل ستبقى جميع المخططات العدائية للعرب تمر من خلال آلية الأغلبية اليهودية. أعتقد أنه آن الأوان للمطالبة بتغيير الديمقراطية الإسرائيلية لتصبح ديمقراطية تعددية (أو إثنية) تعترف بالعرب كأقلية قومية وثقافية وتصوغ حقوقهم الجماعية في دستور الدولة كما هو الحال في بعض الدول الأخرى التي ذكرتها سابقا مثل كندا وسويسرا وبلجيكا. الوصول إلى تحقيق حقوقنا الجماعية في الدولة لا يمر فقط من خلال تغيير يهودية الدولة بل يمر أيضا وفي الأساس من خلال تغيير ديمقراطية الدولة إلى ديمقراطية تعددية.

الصعيد العالمي: يواجه العالم هجمة شرسة باسم الديمقراطية والليبرالية. الولايات المتحدة توظف وسائل إعلامها والمنظمات الدولية لتطويع أنظمة الحكم في دول عديدة لكي تدور بفلكها، كل هذا تحت غطاء نشر الديمقراطية والليبرالية. يمكن ملاحظة أكثر من رد عربي على هذه الهجمة: أولا رد الأنظمة التي تتباين في مدى رضوخها للإملاءات الأمريكية خوفا على بقائها، ثانيا الرد الإسلامي الذي يطرح الأصولية الإسلامية طريقا لمواجهة الهجمة الأمريكية، ثالثا رد القوى الديمقراطية التي تدعو إلى تعميق الديمقراطية والحريات محاولة بذلك تحقيق بعض المكاسب للمواطنين حتى بالاستفادة من الضغط الغربي. أمام الأحادية الغربية الداعية إلى عالم ديمقراطي ليبرالي يجب أن تندرج جميع هذه الردود في إطار رد فوقي يدعو إلى تعددية العالم. من حق شعوب العالم أن تختار نهجها السياسي والاجتماعي والثقافي وأن تختار مسار تطورها. المسار الفردي الليبرالي الذي سار عليه الغرب وحقق مكاسب علمية وتكونولوجية واقتصادية هائلة ليس المسار الوحيد أمام الشعوب. تجربة دول جنوب شرق آسيا (كاليابان وماليزيا والصين وغيرها) تشير أنه بالإمكان تحقيق تطور علمي وتكنولوجي واقتصادي من خلال مسار ليس فردي ليبرالي بل وبالمحافظة على المبنى الجماعي للمجتمع. ومن جهة أخرى يجب الانتباه إلى أن قيم الليبرالية والحرية والديمقراطية ليست حيادية في عالم غير متكافئ من حيث القوة ورأس المال. في هذه الحالة تخدم الحرية الطرف القوي وربما تهدد الطرف الضعيف الذي يخشى عواقب ممارسة الطرف القوي لحريته. حين تعطى الحرية لمن يملك طائرات إف 16 ولمن يملك الحجر تكون هذه الحرية تهديدا للطرف الضعيف وعندها ربما يكون من الأفضل للطرف الضعيف أن يتم ضبط هذه الحرية المطلقة. من هنا فقيم التعددية يجب أن تعلو في العالم على قيم الحرية والديمقراطية الليبرالية. 

 

التعددية التي أدعو إليها لا تنحصر في النظام السياسي بل تتعداه لتكون موقفا اجتماعيا وقيميا وفلسفيا ينطلق من رؤية التعدد في كل شيء، في المجتمع والطبيعة ويرى بهذا التعدد ثراء يتفاعل بشكل صحي في "كل" شامل. وعليه فدعوتي للتعددية أمر يخص الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات ويخص جميع المساهمين في الخطاب التربوي والثقافي والديني والاجتماعي والسياسي.

 

  

*د. مروان دويري رئيس الهيئة الإدارية لعدالة ومحاضر في كلية عيمق يزراعيل وكلية أورانيم  



[1] دون الخوض في النقاش حول طبيعة النظام الإسرائيلي ولغرض هذه المقالة فقط سأفترض أنه يحقق مبادئ اللبيرالية الديموقراطية.

 

 

  


ملفات متعلقة: