"دستور بالوفاق"! اي وفاق؟

نديم روحانا | مجلة عدالة الإلكترونية، العدد 7، تشرين الثاني 2004
أدّت سلسلة من التشريعات والنُظُم إلى إفراغ مواطنة المواطنين العرب من الكثير من جوهرها.

 


أين الديمقراطيّة؟ - تصوير: أوري زاخم



 

بروفيسور نديم روحانا | مجلة عدالة الإلكترونية، العدد السابع، تشرين الثاني 2004

 

يهدف هذا المقال إلى معاينة معنى المصطلح "إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية" بالنسبة للمواطنين اليهود والعرب في إسرائيل. ادّعت تقارير كانت قد نُشرت مؤخّرًا في الصحافة الإسرائيلية، معتمدةً على استطلاعٍ للرأي العامّ أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، بأنّ أغلبيّة المواطنين العرب يقبلون تعريف إسرائيل كـ"يهودية وديمقراطية". سأقوم هنا باستخدام معطيات الاستطلاع الذي قام المعهد الإسرائيلي للديمقراطيّة بنشره، إضافةً إلى معطيات لم يتمّ نشرها أُخذت من استطلاع أجراه "مدى الكرمل" – المركز العربيّ للدّراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة (مدى)، لكي أظهر بأنّ المصطلح "يهوديّة وديمقراطية"، بالإضافة إلى كونه يعبّر عن تناقض داخلي، هو مصطلح غامضٌ وإشكالي  لأنّه قد يعني أمورًا مختلفة بالنسبة لأشخاص مختلفين. علينا أن نفكّك هذا المصطلح قبل أن نصل إلى الاستنتاجات المُتسرّعة حول مقبوليّته لدى العرب واليهود. وسوف أقترح، بالاعتماد على معطيات الاستطلاع، ما يعنيه هذا المصطلح بالنسبة لأغلبية المواطنين العرب، وما يعنيه بالنسبة لأغلبية المواطنين اليهود.

 

 

"دسترة" إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية

إنّ إسرائيل هي واحدة من قلائل الدول التي تعلن عن ذاتها أنّها دولة ديمقراطية وليس لديها دستور. إنّ سبب التخلّي عن جهود صياغة دستور في سنوات إسرائيل الأولى عادةً ما يُعزى إلى قرار "الآباء المؤسّسين" تجنّب أيّ توتّر زائد قد ينبع من أيّ إخلال في الوضع القائم الحساس، وهو التوتر الذي كان قد بدأ يظهر في الدّولة الفتيّة بين شريحتي المجتمع اليهودي المتديّنة والعلمانية، وبالتالي بين الدولة والمجتمع في إسرائيل. ويميل هذا التحليل إلى تجاهل مخطّطات الآباء المؤسّسين للدولة، التي نبعت من أهدافهم المصرّح بها علانيةً: مصادرة موارد المواطنين العرب ومنحها للمواطنين اليهود؛ الحصول على الوقت الكافي لدمج ما تمّ اغتنامه وسلبه من الحرب مع الفلسطينيين – العقارات والأملاك الهائلة التي تركها الفلسطينيون خلفهم – وتوظيف هذه الغنائم لصالح المواطنين اليهود والمجتمع اليهودي؛ وبلورة بعض القوانين والنُّظم التي تهبالفوقية للمواطنين اليهود وتحطّ من مكانة الأقليّة العربية في دولة الشّعب اليهودي. إنّ هذه الممارسات لا تتوافق مطلقًا مع أيّ دستور ديمقراطي، ولذلك فقد كان من الممكن لعملية صياغة دستور أن تعيقَ مُخطَّطات الآباء المؤسّسين.

 

إنّ العديد من هذه الأسباب غير قائمة اليوم: تمّ توزيع الغنائم بين المواطنين اليهود في الدولة؛ مُنع اللاجئون الفلسطينيون من العودة بواسطة القانون والقوّة؛ تمّت مصادرة معظم موارد الأراضي التي كانت للمواطنين العرب، بشكل قانوني، ووظّفت لاستعمالات الشعب اليهودي، وقد أدّت سلسلة طويلة من التشريعات والنُّظُم، التي تمّ سنّها بوتيرة متزايدة في السّنوات الأخيرة، إلى إفراغ مواطنة المواطنين العرب من الكثير من جوهرها، مُشكّلة حالةً من شبه المواطنة. أمّا بالنسبة للعلاقة المتديِّنة – العلمانيّة، والعلاقة ما بين الدولة والمجتمع، فيعتقد كثيرون بأنّه من الممكن ترجمة الوضع القائم الحالي إلى صياغات دستورية.

 

على الرغم من أنّ المعهد الإسرائيلي للديمقراطية كان على رأس حربة الجهود المبذولة لصوغ "دستور بالإجماع"، إلاّ أنّ هذا المعهد هو ليس جسمًا رسميًّا. وقد أخذت لجنة الدّستور، القانون والقضاء البرلمانيّة على عاتقها مؤخرا مهمّة دفع هذه الجهود قدمًا، وأصبحتِ الآنَ الجسمَ الرسميّ الذي يقودها. ويجدر التوضيح هنا أنّ "دستور بالإجماع" في إسرائيل معناه "إجماع يهودي". وبالفعل، تمّ تغييب العرب، بشكلٍ مُطلقٍ، عن النقاش الدائر حول الدّستور، وعن كلّ الجهود والفعاليّات الدّستورية في إسرائيل. وغنيٌّ عن القول إنّ هذا التغييب امتدّ ليشملَ الكنيست الإسرائيلية. فالكنيست هي التي أنشأت إسرائيل كدولة يهوديّة وفق القانون، وهي التي شرّعت قوانين عديدة جعلت من خوض حزب ما لانتخابات الكنيست أمرًا غير شرعيّ إذا لم يقبل هذا الحزب بإسرائيل كدولةٍ يهوديّة (وديمقراطية). يوجد نائب كنيست عربي في لجنة الدّستور، القانون والقضاء البرلمانية. لكن، يجد هذا النائب العربي نفسه في حالة مواجهة مُعضلةمستديمة يعاني منها عديمو الحيلة: هل يقاطع هذا النائب الجهودَ ومن ثمَّ يُتهم بأنّه أضاع فرصة للتأثير على النتيجة، أم أنّ عليه المشاركة وبالتالي شرعنة هذا الجهد الذي سيؤدّي إلى صياغة دستور مصادقٍ عليه من قبل الأغلبيّة في الكنيست، يعلن عن إسرائيل كدولة "يهودية وديمقراطية"، في حين أنّ هذا النائب وأغلبيّة جمهور ناخبيه يؤمّنون بأنّ إسرائيل ليست ديمقراطيةً ويجب ألا تكون يهوديةً، وأنّ المصطلح نفسه يتضمّن تناقضًا، على أيِّ حالٍ.

 

إن غياب العرب الذي يتحوّل إلى أمر ثابت عبر "جهود غير رسمية"، كجهود المعهد الإسرائيلي للدمقراطية مثلاً، يثير أسئلة جذرية حول طبيعة الدستور وجوهر الديمقراطية التي يهدف الدستور إلى حمايتها. فمن الواضح أنّ المعهد الإسرائيليّ للديمقراطية، بتركيبته، وأهدافه، وطاقمه، وبنيته، ونقاشه العام حول الدستور يرسخ تغييب العرب. ويشدّد المعهد الإسرائيلي للديمقراطية على الطابع ذاته شأنه شأن "وثيقة كنيرت"، وهي طاقم بحث من اليهود حصرًا شُكّل للغرض عينه، وقام بمناقشة مستقبل إسرائيل (بما في ذلك علاقتها بالأقليّة العربيّة)، وأعدّ وثيقة تؤكّد طابع الدولة كـ"يهوديّة وديمقراطيّة".. مع هذا، يدعو المعهد الإسرائيلي للديمقراطية بعضَ المشاركين العرب، الذين يجدون أنفسهم مُستغلّين، بصورةٍ متزايدةٍ، كورقة تين، لتوفير غطاءٍ للجهود التي تسعى إلى تأسيس إجماع يهودي حول مشروع دسترة إسرائيل كـ"يهوديّة وديمقراطيّة".

 

إنّ "دسترة" إسرائيل كـ"يهوديّة وديمقراطيّة" هي مشروع (أو مشروع مُضادّ) للعديد من المؤسسات الإسرائيليّة، بما فيها الأكاديميا الإسرائيليّة، خلال العقدين الأخيرين ونيّف. وتتناسب الطاقة التي خُصّصت لهذا المشروع المضادّ ولاستمراره بشكل مباشر مع تعاظم الوعي حول التناقض الداخليّ لإسرائيل كدولة يهودية تدّعي أنّها ديمقراطية. وقد تصدّر الأكاديميون والمثقفون العرب عمليّة فضح هذا التناقض. وقد أثار عرض الفكرة الديمقراطية الأساسية التي فحواها "دولة جميع مواطنيها" تساؤلات حول هذا التناقض، ولكنه بعث الحياة في المشروع المضادّ أيضًا. وقام أحد روّاد علم الاجتماع، سامي سموحة، من جامعة حيفا بالتنظير حول الواقعالمتناقض وقد دعاه "بالديمقراطية العرقية"، وهو يحاجج أنّ الدولة قد تكون ديمقراطية وعرقيّة في نفس الوقت، وأنّ هذا النموذج هو بمثابة نموذج مختلف من نماذج الديمقراطية الأخرى. وقد قامت روث غافيسون، من الجامعة العبرية، وهي واحدة من روّاد علماء الحقوق، بتصدّر طليعة التنظير للدولة "اليهودية والديمقراطية". وعلى وجه العموم، التأمت العلوم الاجتماعية وعلوم الحقوق الإسرائيلية، مع بعض الاستثناءات المعيّنة، حول هذا المشروع، ووجدت في "الديمقراطية العرقيّة"، أو الدولة "اليهودية والديمقراطية" حلاً – رغم أنّه وهميّ – للتناقض الجذريّ القائم في بنية إسرائيل.

 

لقد كان ائتلاف الأكاديميا، والكنيست وبعض المؤسسات الأكاديميّة وشبه الأكاديميّة كالمعهد الإسرائيلي للديمقراطية ومركز رابين (حيث تم تصوّر "وثيقة كنيرت")، قويًّا وذا تأثير كبير.. كان يجب ستر التناقض في الدولة اليهودية ونفيه، لأنّ هويّة الدولة والأفراد الذين يَودّون النظر لنفسهم على أنّهم ديمقراطيون كانت في خطر. إنّ أفضل مثال قد يعطى على مدى التعاون ما بين السياسة وعالم الأكاديميا، هو قيام القنصليات الإسرائيلية برعاية جولة روث غافيسون في الجامعات الأمريكية الرائدة، والتي قامت خلالَها بعرض الدولة "اليهودية والديمقراطية" على كليات الحقوق والجمهور العامّ. إنّ هذا المشروع هو في غاية الأهميّة بالنسبة لهُويّة وصورة إسرائيل، حتّى أنّه تمّ طلب مساعدة الدبلوماسية الدوليّة. فبدأ وزير خارجية الولايات المتحدة المستقيل، كولين باول، باستخدام المصطلح "دولة يهودية" عند الحديث عن حلّ للصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني. وبدأ الرئيس الأمريكي نفسه باستخدام المصطلح "يهودية وديمقراطية" عند الإشارة إلى إسرائيل، وتبنّت الصّحف الأمريكية  الرائدة وروّاد المعلّقين السياسيين المصطلح بسهولة، وغالبًا ما استخدموه لتشجيع إسرائيل على التخلّي عن أراضٍ ومساحات فلسطينية لتحافظ على طابعها "اليهودي والديمقراطي."

 

قد يبدو موقف المواطنين العرب غير ذي أهمية، في ظلّ الإجماع اليهودي في إسرائيل المؤيد لـ"دسترة" إسرائيل كـ"دولة يهودية وديمقراطية"، وفي ظلّ التّأييد الدّوليّ الذي حصل عليه هذا العرض الإسرائيلي الذاتي. ولكنّي أحاجج بأنّ موافقة أو عدم موافقة العرب على هذا المشروع هي مفتاح شرعيّته الحقيقة. ويبدو الآنَ واضحًا، بشكل متزايدٍ، أنّ صوغ دستور في إسرائيل سيتطلّب قدرًا معيّنًا من الموافقة العربية لكي يحظى بشرعيّة دوليّة. إنّ الشّرعيّة التي يمكن أن يمنحها المواطنون العرب للدّستور لا تُقدّر بثمنٍ لأنّهم إذا وافقوا – وهم الذين يقوم هذا المشروع بتثبيت عدم مساواتهم – على هذا المشروع، فعندها، لماذا سيقوم أي شخص آخر بإثارة الشّكوك حوله؟ ولهذا السّبب، يستطيع المشترعون العرب تحصيل تنازلات جديّة في نصّ الدّستور (وفي توزيع الموارد) إذا ما وهبوا الإجماع اليهوديّ ختم موافقتهم.

 

 

لكنّ المشترعين العرب هم ممثلون جدّيون للإجماع العربيّ في إسرائيل، الذي يعارض بشدّة الإجماع اليهودي حول القضايا المتعلّقة بهويّة الدّولة، شرعيّة إسرائيل كدولة يهودية، علاقتهم بإسرائيل، والصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني. إضافةً إلى ذلك، يرى كثيرون من المشترعين كيف أنّ "دستور بالإجماع" يتعامل مع هذه القضايا، التي ما زالوا يعتبرونها مفتوحةً، كقضايا مسلّم بها، بما في ذلك قضيّة الللاجئين الفلسطينيين وأملاكهم. يفضل أحد الأحزاب – الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة – تأجيل العمليّة كلّها، نظرًا لميزان القوى الحالي. أمّا ممثل حزب آخر – التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ – في لجنة الدستور، القانون والقضاء البرلمانية، فقد امتنع حتّى الآن عن الاشتراك في تداولات اللجنة، ولكنّه مهتمّ بالمبادرة إلى عمليّة وضع اقتراح عربيّ لدستور بديل. أمّا القائمة العربيّة الموحّدة فإنّها تتخذّ موقف الانتظار لترى ما إذا سيتمّ فعلاً صوغ دستور، قبل معارضته. في الإمكان تفهّم مواقف المشترعين العرب عندما يأخذ المرء بعين الاعتبار مواقف جماهير ناخبيهم.

 

 

تحليل المعنى الدّستوري للدولة "اليهودية والديمقراطية"

نظرًا لأهميّة وجهات نظر العرب في قضيّة "الدّستور بالإجماع"، على نقيض مشاركتهم الفعّالة فيه، أجرى المعهد الإسرائيلي للديمقراطية استطلاعًا عامًّا للرأي "لفحص مواقف السكّان العرب في ما يتعلّق بإنشاء دستور في دولة إسرائيل". وقد أُجريَ الاستطلاع في شهر أيلول من العام 2004 عبر الهاتف واشتمل على عينة تمثيلية تألفت من 504 مستجوبين.

 

وعندما سُئلوا عمّا يعتبرونه هامًا لتضمينه في الدّستور، أجاب %100 من العرب المستجوبين "حقوق متساوية للعرب" في الدرجة الأولى، أو الثانية أو الثّالثة. وحصل الموضوع الذي اعتبر في الدرجة الثانية من ناحية أهميّته - "الوضع الاقتصادي" – على أقلّ من %30 من الإجابات في الدرجات الثلاث الأولى. لم يذكر أيّ من المستجوبين الـ504 مسألة دولة "يهودية وديمقراطية". عندها، طُلب من المستجوبين تقييم مدى أهمّيّة 7 فقرات سيتمّ إدراجها في الدّستور:

1.     إسرائيل كدولة تضمن حرّية كاملة في العمل؛

2.     إسرائيل كدولة تضمن الحقوق الجماعية للجماعات المختلفة؛

3.     إسرائيل كدولة تضمن التّعليم المجاني؛

4.     إسرائيل كدولة تعترف بالأقليّة العربيّة؛

5.     إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية؛

6.     إسرائيل كدولة تضمن الحقوق المتساوية للعرب؛

7.     إسرائيل كدولة تضمن الحرية الدينية الكاملة.

 

أجاب أكثر من %95 من المستجوبين أنّ كلّ هذه  الفقرات هي في غاية الأهميّة، أو أنها مهمّة بشكل وسطي، ما عدا فقرة واحدة. وقد برز موضوع واحدة فقط: إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية: قال %35 من المستجوبين فقط إنّ هذه الفقرة مهمّة جدًّا أو مهمّة بشكل وسطيّ. وعندما طُلب من المستجوبين تدريج الفقرات، قام %5 منهم فقط بتدريج فقرة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية في المرتبة الأولى، أو الثانية أو الثالثة معًا؛ وقد أعطاها %85 منهم التّدريج الأدنى. وبشكل غير مفاجئ، درّج %81 منهم فقرة الحقوق المتساوية للعرب بأنها في الدرجة الأولى، أو الثانية أو الثالثة في أهميتها.

 

ومع متابعة الاستطلاع لموضوع "يهودية وديمقراطية"، سُئل المستجوبون عمّا إذا كانوا سيقومون بتأييد "استفتاء عام لدستور يعرّف إسرائيل ’كدولة يهودية وديمقراطية تضمن المساواة التّامة للعرب‘". وتدلّ النتائج على أنّ %77.4 من المستجوبين سيؤيدون بالتأكيد، أو سيؤديون، مثل هذا الاستفتاء. إنّ حقيقة أنّ المعهد الإسرائيلي للديمقراطيّة وداعمي مشروع الدولة "اليهودية والديمقراطية" لا يرون التناقض بين كون إسرائيل يهودية وديمقراطية من ناحية، وبين هذا ومنح المساواة التامة للعرب من الناحية الثانية، هي مسألة للتحليل السياسي وكذلك النفسي، لا تتّسع هذه المقالة القصيرة لتناولها. لكن، يجب أن يكون واضحًا، في سياق المعطيات التي يقدّمها المعهد الإسرائيلي للديمقراطية بنفسه، أنّ ما يعنيه العرب "بدولة يهودية وديمقراطية تضمن المساواة التامة للعرب" هو مختلف عمّا يقصد مشروع دولة "يهودية وديمقراطية" لإسرائيل أن تكون. فبالنسبة للمواطن العربيّ، كما يبدو، فإن الرسالة هي أنّه إذا تمّ ضمان المساواة التامة، تستطيع إسرائيل أن تطلق على نفسها اسم يهودية وديمقراطية. إن أحدى الطرق لفهم هذه النتيجة هي أنّ ضمان إسرائيل المساواة التّامة للعرب سوف يعني أنّها دولة ديمقراطية في جوهرها، ودولة يهودية بموجب حقيقة وجود أغلبية يهودية ستهيمن على طابع هذه الدولة. لكن، يجب ألاّ يتمّ خلط هذه الرسالة مع قبول إسرائيل كدولة يهودية في جوهرها (أو دولة الشعب اليهودي)، تتمتّع ببعض السّمات الديمقراطية فقط، كما هي عليه اليوم وكما يريدها مشروع دولة "يهودية وديمقراطية" أن تكون، ربّما مع بعض التعديلات البسيطة لصالح المواطنين العرب. يتطلّب تفسير هذه النتائج الوارد أعلاه المزيد من التحقّق، وهذا ما سأتناوله في القسم الأخير من المقال، والذي سيعتمد كذلك على معطيات استطلاع الرأي.

 

أجرى "مدى"، قبل بضعة أشهر من استطلاع المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، وتحت إشراف كاتب هذه السطور، استطلاعًا شاملاً للرأي على عيّنة عشوائية وتمثيلية من المواطنين العرب. وشملت هذه العيّنة نحو 1000 مستجوب، وتمّ إجراؤه غبر المقابلات وجه لوجه. وفي حين لم يتمّ طرح سؤال حول الدّستور على المستجوبين بصورة واضحة، إلا أنه قد تمّت مقابلتهم حول قضايا تمتّ للموضوع بصلة، بما فيها الصهيونية، قانون العودة، حقّ العودة، الديمقراطية، إسرائيل كـ"دولة جميع مواطنيها"، والعلاقات المستقبلية بين المواطنين العرب وإسرائيل.

 

يحتل قانون العودة والهجرة اليهودية في الدّولة "اليهودية والديمقراطية" التي يتصوّرها داعمو مشروع "دستور بالإجماع"، مكانةً مركزيةً. وبشكل مشابه، فإنّ هُويّة إسرائيل الصّهيونية هي أمر جذري لصياغة هذين القانونين. وتشير نتائج استطلاعنا إلى أنّ %95 من جميع العرب المشاركين في عينة الاستطلاع يعتقدون بأنّه لا يوجد للمهاجرين اليهود أيّ حقٍّ في القدوم إلى هذه الدّولة. وبوجود مثل هذه النسبة المرتفعة، يمكننا الاستنتاج، بشكل واثق، أنّه لا توجد فروق جدّية بين فئات المجتمع العربي المختلفة – الدروز، والبدو والعرب الآخرين. إضافةً إلى ذلك، عندما سُئل المشاركون إلى أي مدى تثير لديهم المواضيع الثمانية الشعور بالطمأنينة أو الشعور بالقلق على سلّم من واحد إلى خمسة (بحيث يشير واحد إلى درجة مرتفعة من القلق، وتشير خمسة إلى شعور مرتفع بالطمأنينة)، وكان الموضوع الذي أثار الشعور الأقصى بالقلق هو الهجرة اليهوديّة (بمعدّل 1.5 على سلّم الدرجات الخمس)، مع اختلاف بسيط جدًا بين المجموعات العربية المختلفة. ويعتقد %87 من المشاركين بأنّ قانون العودة هو قانون عنصريّ، ويعتقد %94 منهم أنّ الصهيونية هي حركة عنصريّة.

 

يرى مؤيّدو "دستور بالإجماع" إسرائيل كدولة ديمقراطية. من المهمّ أن نسأل ما إذا كان العرب يرون في إسرائيل دولة ديمقراطية أم لا. ولهذا الغرض، سُئل المشاركون بشكل واضح ما إذا كانوا يعيشون في دولة ديمقراطية. وقد وجدنا أنّ ثلثي المشاركين العرب يعتقدون أنّهم لا يعيشون في دولةٍ ديمقراطية. يمكن للمرء أن يحاجج أنّ على إسرائيل أن تتغيّر لكي تصبح ديمقراطيةً. لكن، هل في إمكان إسرائيل أن تكون يهوديةً وديمقراطية، أيضًا؟ يعتقد %62 من المشاركين أنّ إسرائيل لا تستطيع أن تكون ديمقراطية ويهودية في الوقت نفسه، وربّما لهذا السبب يحاجج%67 منهم أن إسرائيل ليست ديمقراطية. أما في ما يتعلّق بحقّ العودة، فمن الواضح أنّ الدولة "اليهودية والديمقراطية" قائمة على إنكار حقّ العودة للفلسطينيين، مبدئيًا وفعليًا. ولهذا السبب، سُئل المشاركون العرب عمّا إذا كان على الفلسطينيين التّنازل أو عدم التّنازل عن حقّ العودة مقابل تسوية مع إسرائيل يُتفق فيها على جميع القضايا الأخرى، وتضمن قيام دولة في الضفة الغربية وغزة، وأجاب %72 منهم أنّ على الفلسطينيين ألاّ  يقبلوا مثل هذا الاتفاق.

 

وفي ما يتعلّق بالترتيب الأفضل للعلاقة بين المواطنين العرب وإسرائيل، اختار نحو ثلثين من المشاركين (%64) دولة جميع مواطنيها بأنها الحلّ المفضّل لمسألة علاقتهم بإسرائيل، واختار %14 منهم دولة ثنائية القوميّة في إسرائيل، واختار %10 منهم دولة تضمن أكبر قدر من الحقوق الممكنة ضمن سياق دولة يهودية. وعندما سُئلوا عن كلّ واحد من هذه الترتيبات وعن ترتيبات أخرى، بشكل منفرد، لاقت دولة جميع مواطنيها تأييد %94 من المشاركين، ولاقت دولة ثنائية القومية تأييد %70 منهم.

 

يظهر استطلاعنا، وعلى نحو متوقّع، أنّ أغلبيّة المستجوبين العرب لا يعتقدون بأنّ العرب يتمتّعونبالمساواة في العديد من المجالات (باستثناء الخدمات الصحيّة والمستشفيات). لكن، كانت النتيجة المثيرة عندما سئل المشاركون ما إذا كان على المواطنين الفلسطينيين، ومقابل تحقيق أكبر قدر ممكن من المساواة الفردية، التخلّي عن القضايا التالية: تدريس التاريخ من وجهة نظر فلسطينية؛ المطالبة بحقّ العودة للاجئين الفلسطينيين؛ المطالبة بالحقوق الجماعية للعرب في إسرائيل؛ التأكيد على الهوية الفلسطينية؛ المطالبة باعتراف إسرائيل بمسؤوليّتها التاريخية في ما يتعلّق بقضية اللاجئين؛ ومطالبة إسرائيل بتغيير هُويتها اليهودية، ورأى أغلبية المشاركين أنّه يجب على المواطنين العرب عدم التنازل عن أيٍّ من هذه القضايا.

 

مع هذا، تجدر ملاحظة أنّ %67 يوافقون على دولة تضمن أكبر قدر ممكن من الحقوق، في حين تبقى الدولة دولةً يهودية. هذه المعطيات تتوافق مع النتائج التي توصّل إليها استطلاع المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، ويجب أن يتمّ تفسيرها بالطريقة نفسها. يبدو أن النتائج هي موضع ثقة؛ لكن صحّة تفسير هذه النتائج هي التي تحتاج إلى تثبيت.

 

إن السّياق الأوسع الذي يوفّره استطلاع المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، ومن خلال المعطيات الإضافية التي يوفّرها "مدى"، يساعدنا على التوصّل إلى تفسير صحيح للنتائج: إذا ألغت إسرائيل قانون العودة، أوقفت الهجرة اليهودية، قبلت بمسؤوليتها تجاه قضيّة اللاجئين واعترفت بحقّ العودة، ووفّرت المساواة التامة للمواطنين العرب في كل المجالات، وتحوّلت إلى دولة جميع مواطنيها، عندها سيقبل الكثيرون تعريف الدولة كـ"يهودية وديمقراطية".

 

 يبدو أنّ تحليل المُصطلح "يهودية وديمقراطية" يكشف عن صورة واضحة قد تساعدنا في تفسير النتائج المتناقضة، ظاهريًا، في استطلاعات الرأي. ففي حين يريد مشروع "دستور بالإجماع" أن يقبل المواطنون العرب إسرائيل كدولة يهودية في جوهرها، مع بعض السّمات الديمقراطية، كما هي عليه الآن مع بعض التعديلات الممكنة، ستقبل أكثرية المواطنين العرب المصطلح إذا ما أصبحت إسرائيل دولة ديمقراطية في جوهرها، وتوقّفت عن كونها يهوديةً باستثناء تأثير الطابع الثقافي للأغلبية السكّانية. يشير هذا الوضوح إلى الهوّة العميقة التي ما زالت قائمةً ما بين العربيّ واليهوديّ في ما يتعلّق بمقبولية "دستور بالإجماع". لكن، إذا توقّف المرء عن التفكير بهذا الأمر، فيجب ألا نُفاجأ- عندما يكون الهدف هو الوصول إلى إجماع يهوديّ واستثناء العرب في كلّ مرحلة حقيقية من العمليّة- أن يصبح الأمر نوعًا من التفكير الرّغبيّ بأن العرب سيقبلون بمثل هذا الحل الوهميّ لتناقض الدولة "اليهودية والديمقراطية"، في حين أنهم ضحيّته الرئيسية.

 

 * بروفيسور نديم روحانا هو مدير مدى الكرمل – المركز العربي للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة وبروفيسور في علم الاجتماع وعلم الإنسان وعلم النّفس في جامعة تل – أبيب.

 

ملفات متعلقة: