المدلولات الجيوسياسية والحيّزية المتعلقة بالفلسطينيين في القانون الجديد لدائرة أراضي إسرائيل

د. يوسف رفيق جبارين|مجلة عدالة الإلكترونية ، العدد 62، تموز 2009
لا نكاد نجد دولة أخرى في العالم، خاصةً بعد انهيار الكتلة الشيوعية، تملك 93% من الأراضي، كما في إسرائيل.

 

 

دائرة أراضي إسرائيليسعى القانون الجديد المتعلق بدائرة أراضي إسرائيل والمطروح اليوم على طاولة المداولات في الكنيست في إطار قانون التسويات 2009-2010، إلى إجراء إصلاحات بنيوية كبيرة في دائرة أراضي إسرائيل وفي مسألة الأراضي التابعة للدولة، كما يسعى إلى نقل الملكية على الأراضي، وفق القانون، إلى مجمل المستأجرين الذين يحوزون عقود "استئمان جيلية" (استئجار لمدى بعيد) لاستعمالات شتى للأراضي، مثل السّكن والعمل. وتقوم الحكومة الحالية ورئيسها بممارسة ضغط هائل من أجل التصديق على هذا القانون. وتطرح المسألة هذه عدة أسئلة من العيار الثقيل، بما يتعلق بالفلسطينيين، سواءً أكانوا من سكان إسرائيل أم من النازحين واللاجئين. ولا ريب في أنّ الموضوع واسع ولا يمكن الإحاطة به هنا، وعليه فإنني سأتركّز في الإسقاطات الجيوسياسية والحيزية لهذا القانون على الفلسطينيين ومستقبلهم في وطنهم، فقط.

 

 

 

 

 

دائرة أراضي إسرائيل هي الجهة المسؤولة عن إدارة الأراضي التي تملكها دولة إسرائيل والصندوق الدائم لإسرائيل (كيرن كييمت) وسلطة التطوير، وذلك وفق قانون دائرة أراضي إسرائيل من العام 1960، بحيث يصل إجماليّ حجم الأراضي التابعة لملكية عامة إلى 93% من مساحة الدولة. وتشير مقارنة دولية إلى أننا لا نكاد نجد دولة أخرى في العالم، وخصوصًا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشيوعية، تمتلك بملكية عامة حوالي 93% من الأراضي، كما في إسرائيل. ومن الهام بمكان أن نذكر أنّ جزءًا كبيرًا من هذه الأراضي هو ممتلكات فلسطينية تتبع لبلدات هُجرت أو دُمرت، أو أراضٍ صُودرت من العرب بواسطة مجموعة واسعة من قوانين المصادرة، تشكل سابقة نادرة في تاريخ البشرية العصري.

ويتمحور الدافع من وراء دفع قانون شبكة أراضي إسرائيل الجديد، كما جرى وصفه والذي تدفعه الحكومة الحالية، في الخطاب الاقتصادي النيو-لبرالي المتعلق بخوْصصة الموارد العامة- الأراضي في هذه الحالة؛ في التنجيع الاقتصادي؛ في تحفيز النشاط الاقتصادي في المرافق؛ في تقليص البيروقراطية الحكومية؛ في تقليص التدخل الحكومي في السّوق الحرة؛ في دفع وتعزيز الملكية الخصوصية وتشجيع المبادرة الشخصية. وورد في متن تفسير القانون أنّ "عمل "الدائرة" يتميز بمستوى نجاعة مُتدنٍّ. وينبع الأمر، أساسًا، من طريقة الإستئجار التي تُحمِّل على "الدائرة" عبءَ الاحتكاك المتواصل مع جمهور المستأجرين... "الدائرة" تعمل وفق منظومة قرارات معقدة وفي مبنى تنظيمي لا يتلاءم ومسارات العمل المطلوبة من أجل إدارة الأراضي في زمننا هذا" (اقتراح قانون التنجيع الاقتصادي، 2009: الصفحة رقم 514).

ويهدف هذا القانون، في آنٍ واحد، إلى تمكين الدولة من بيع أو نقل الملكية على الأراضي إلى المستأجرين، من دون مقابل، من جهة، والحفاظ من الجهة الأخرى على أراضي "الشعب اليهودي" التي يملكها الصندوق الدائم لإسرائيل، الذي يملك حوالي 13% من أراضي الدولة. وفي أعقاب هذا، فإنّ القانون يقضي: "في سبيل تطبيق الإصلاحات المتعلقة بنقل الملكية للمستأجرين يجب إجراء تبادل أراضٍ بحجم كبير بين الدولة وبين الصندوق الدائم لإسرائيل... وكي يكون بالإمكان إجراء تطبيق سريع وبسيط لعملية تبادل الأراضي، نقترح البتّ في أنّه لا توجد حاجة لطرح الصفقات أمام لجنة المالية البرلمانية للتصديق عليها" (الصفحة رقم 523). ويسعى الصندوق الدائم لإسرائيل من وراء هذا إلى توسيع حجم الأراضي التي بحيازته وذلك بواسطة التنازل عن أراضٍ كائنة في داخل المدن القائمة والحصول على تعويض مقابلها على شكل أراضٍ في الجليل والنقب. وسيُمكّن تطبيقُ القانون الصندوقَ الدائم لإسرائيل، في نهاية المطاف، من التمتع بأراضٍ جديدة ستُننقل إليه كتعويض على حساب أراضي الدولة التي من المفترض أن تكون متاحة لمنفعة عامة الجمهور، من دون أن يقتصر ذلك على مجموعة إثنية واحدة. وكما أسلفنا، فإنّ العرب ممنوعون من الاقتراب من أراضي الصندوق الدائم لإسرائيل وهم ممنوعون من التمتع بهذه الأراضي أسوة باليهود.

وسيؤدي القانون، في نهاية المطاف، إلى نقل الملكيات، من دون مقابل أيضًا، إلى مستأجرين يهود وإلى "حملة تصفية" لما تبقى من الممتلكات الفلسطينية في الكثير من المدن في إسرائيل، مثل يافا والرملة واللد وبئر السبع وطبرية وبيسان وحيفا وعكا، إلى جانب ممتلكات الفلسطينيين في القدس الغربية. وهكذا، سيجري استكمال النكبة الفلسطينية في هذه المدن، حيث سيتمّ البتّ والحسم نهائيًا في مستقبل الحيّز الفلسطيني الذي ساد لأجيال كثيرة، وسيصبح (هذا الحيّز) حالة عقارات غير منقولة مُخوصصة يتمتع بها مبادرون وأصحاب الرساميل والأفراد اليهود. وتحمل "حملة" نقل الملكية هذه في طياتها ما سيعزّز عمليات "تجديد المكان وتعزيزه" أو التجدّد المدينيّ، والتي تتميز بالإقصاء وخروج السكان المحليين أو الأصلانيين من مراكز المدن ودخول المبادرين والسّكان الأفضل حالاً من الناحية الاقتصادية.

مصير مشابه ينتظر قسمًا من مساحة حوالي 500 بلدة، من القرى والمدن الفلسطينية المهجرة. فهناك كيبوتسات وموشافات (البلدات الزراعية التعاونية) وبلدات يهودية كثيرة بُنيت على أنقاض هذه البلدات العربية. وتقوم هذه البلدات باستئجار الأراضي التي تسكن فوقها، في الغالب، من دائرة أراضي إسرائيل. ومن الممكن أن يُمكّن القانون الجديد هذه البلدات من شراء الأراضي المذكورة بدلاً من استئجارها وحيازة الملكية على هذه الأراضي. وسيكون بوسع الكيبوتسات والموشافات والبلدات الأخرى أن يحصلوا على الملكية أو أن يقتنوا الأراضي التي يستأجرونها، من أجل إقامة أحياء سكنية وتطوير مراكز تجارية والتمتع بأراضٍ غالية الثمن في أرجاء الدولة. وعدا عن المسّ بممتلكات الفلسطينيين، فإنّ سيرورة كهذه تحمل في طياتها إمكانية خلق توزيع موارد غير عادل بين مجموعات سكنية مختلفة في إسرائيل، وبالتالي توسيع الهوة والفوارق الاقتصادية بين المجموعتين السكنيتين.

كما أنّ تركيبة مجلس سلطة (القانون الجديد يسعى لتغيير الاسم من دائرة إلى سلطة) أراضي إسرائيل في هيئتها الحالية ستقوم بإقصاء تمثيل العرب فيها بكلّ وضوح. وينصّ الاقتراح على أن يشغل وزير منصبَ رئيس المجلس، إلى جانب 11 عضوًا تعيّنهم الحكومة، من بينهم ستة ممثلون عن الوزارات الحكومية وخمسة ممثلين عن الصندوق الدائم لإسرائيل. وتعني التركيبة المقترحة للمجلس إقصاء العرب عن اتخاذ القرارات المتعلقة بالأراضي في الدولة، وبكلمات أخرى، منعهم من المشاركة في السياسات التي تقرّر وتبتّ في مستقبل حوالي 93% من أراضي الدولة.

يحمل هذا القانون مدلولاتٍ ومعانيَ كبيرة تتعلق بمستقبل الحيّز الفلسطيني. فإلى جانب إقصاء العرب عن كلّ ما يتعلق باتخاذ القرارات الهامة في مسألة الأراضي، فإنّ تطبيق القانون سيمسّ بشكل كبير بتوسيع مناطق نفوذ البلدات العربية، مستقبلا. ويكمن مستقبل تطوير هذه البلدات وحلّ أزمة السّكن وتلبية الاحتياجات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في ضمّ أراضٍ محاذية لهذه البلدات، والموجودة اليوم بملكية الدولة وإدارة دائرة أراضي إسرائيل. وعلى الرغم من ندرة الحالات التي جرى فيها توسيع مناطق نفوذ لبلدات عربية في السنوات الأخيرة، فإنّ حالات توسيع مناطق النفوذ تجري في الغالب على أراضي دائرة أراضي إسرائيل والموجودة في المجالس الإقليمية اليهودية. وفي حال تطبيق القانون وخوصصة الأراضي، فإنّ الأمر يمكن أن يؤدّي إلى إحداث صعوبة خارقة، خصوصًا إذا ما كانت الأراضي ستُنقل إلى ملكية خصوصية يهودية بدلا من ملكية الدولة. وعندها، لن يكون بالإمكان توسيع مناطق نفوذ البلدات العربية على حساب الأراضي الخاصة لليهود. والنتيجة المتوقعة هي استمرار نزعات الإزدحام في البلدات العربية وزيادة خطورة أزمة السّكن والعمل والنقص في المساحات المستغلة لخدمة الجمهور.

أضف إلى ذلك أنّ القانون الجديد يسعى لأن "يكون الممثلون في المجلس خاضعين لقرارات الحكومة، كما تنعكس في قراراتها" (الصفحة رقم 517). وهكذا، يمكن للحكومة أن تطبق مخططاتها لبيع الأراضي وتهويد الجليل والنقب بصورة أكثر نجاعة، حين تسيطر على وتيرة البيع وتحويل الحيّز العام المخوْصص إلى عقارات غير منقولة. هكذا، ستلتقي الرؤيا النيو-لبرالية الاقتصادية المتمحورة في خوْصصة الموارد العامة، مع استكمال السّلب الفلسطيني.

 

ملفات متعلقة: