وقائع المحاكمة لأبو النكبة

حسن جبارين | مجلة عدالة الإلكترونيّة، العدد رقم 60، أيّار 2009
منذ سُُنّ قانون النكبة لم تعد المظاهرات في يوم النكبة تجري تحت شعار "إحياء النكبة"، وإنما "ضد قانون النكبة".

 

حسن جبارين* | مجلة عدالة الإلكترونيّة، العدد رقم 60، أيّار 2009

القاضي: صباح الخير للجميع. لنبدأ بسماع ملف دولة إسرائيل ضد عبد إغبارية. ما هو ردّ المتهم على لائحة الاتهام؟

 

 

 

 

 

المحامي: يُنكر المتهم التهمة، سيدي.

 

طلب المدّعي أن يعتلي منصة الشهود شرطي ليشهد من طرفه.

 

الشرطي: موضوع المسيرة التي سارت يوم الاستقلال الأخير في أم الفحم هو إحياء ما يُسمى لدى الأقليات "يوم النكبة". وقد سار المتهم في المسيرة وهتف وصاح بصوت عال شعارات مناهضة لدولة إسرائيل من خلال ترديد كلمة "النكبة" بين الفينة والأخرى.

 

المدعي: كم مرة، إذا كنت تتذكر، هتف المتهم كلمة "النكبة"؟

 

الشرطي: أكثر من عشر مرات وبأهازيج مختلفة.

 

يُنهي المدعي من استجوابه. يُعلن المحامي أنه يتنازل عن استجواب الشرطي. يصرّح المدعي أن الادعاء من جهته أثبت كل الحقائق ذات الصلة لغرض تثبيت التهمة بموجب قانون النكبة الجديد. وهو يقضي بحظِر تنظيم عمل يتعاطى "مع إحياء يوم الاستقلال، أو مع إقامة دولة إسرائيل، على أنه يوم مأتم وحداد".

 

حضور الصحافة المحلية والأجنبية في الجلسة الثانية كان أوسع منه في الجلسة الأولى. فاهتمام الجميع مصبوب اليوم على السؤال المركزي الذي شغل المختصين: ما هي إستيراتيجية الدفاع؟  هل سيفي محامي الدفاع بوعد اتحاد المحامين العرب في إسرائيل ويُحضر شهوداً بشأن النكبة والغبن التاريخي الذي لحق بالفلسطينيين، في سعيه لتأكيد حق العرب في إحياء يوم النكبة؟ وكم سيكون عدد شهود الدفاع في هذه الجلسة؟ دخل القاضي قاعة المحكمة فنهض الجميع احتراماً له. طلب المحامي أن يُدلي أبو علي بشهادته.  أبو علي ذو مهابة، في ألـ 82 من عمره، من أم الفحم. بدا أبو علي سعيدًا بهذا الموقف، ويبدو أنه في تمام عافيته ورصانته. وقد بدأ بشهادته باللغة العربية مع ترجمة فورية.

 

المحامي: سيد أبو علي، اشرح من فضلك للمحكمة الموقرة مجال تخصّصك؟

 

أبو علي: أنا مختصّ في موضوع بيت الأجر. وأنا المختصّ الأكبر في هذا الشان في حارة الإغبارية. منذ عشرين عاما وأنا أشارك في كل بيت أجر في الحارة، وما من ميت لم أشارك في الصلاة على روحه.

 

المحامي: إشرح من فضلك للمحكمة ما هي العادة والعُرف في بيت الأجر؟

 

أبو علي: نقرأ ما تيسّر من آيات قرآنية، وندعو الله  خلال اليوم من مرة لمرة أن يرحم الميت وأن يُسكنه جنات عدن ويُدخله في عداد عباده الأولياء والصالحين. اما الوفود المعزّية فتُستقبل بوجوه جادّه تعبّر عن الحزن والأسى لموت الفقيد والشكر والثناء للمعزّين.

 

المحامي: هل العادة أن تُطلق هتافات أياً كانت أيام الأجر أو الحداد؟

 

أبو علي: العوذ بالله، أجننت؟ فكرامة الميت تُلزمنا بأجواء الهدوء والاحترام.

 

ينهي محامي الدفاع استجواب شاهده. ليبدأ المدعي باستجواب مضاد: إشرح لنا كيف تحول موضوع بيت الأجر إلى اختصاص. هل تعلّمت ذلك في جامعة أو في معهد؟

 

أبو علي: أجل إنه شأن لمختصين مثلي، اكتسبوا خبرة طويلة. أعطيك أمثلة بسيطة حول هذا الإختصاص: فأيام الأجر والحداد ثلاثة. والسؤال هو كيف يعدّون هذه الأيام؟ هل يُحسب يوم الجنازة ضمن الأيام الثلاثة؟ متى يُحسب من بينها ومتى لا يُحسب؟ هل يُحسب يوم الجمعه؟ وماذا إن وقعت أيام الأجر في شهر رمضان أو في أحد أيام عيد الأضحى؟ متى يُمدّد الأجر لأكثر من ثلاثة أيام؟ ما هو نوع الضيافة المقدّم للمعزين؟ ما هي نوعية القهوة المقدّمة؟ ما هو البديل عن التمر؟ ماذا يُقدمون في مساء اليوم الأخير من الأجر؟ ما هي طبيعة الدعاء في بيت الأجر؟ ما المسموح توزيعه لذكرى المرحوم في "الخِتمة"، لحظة إغلاق بيت الأجر؟ ما هي طقوس الخِتمِه؟

 

المدّعي: أليست هناك قواعد مكتوبة؟

 

أبو علي: كل شيء شفهي، ونحن أيضا، المختصين، نغيّر من القواعد وفقاً للحالات المختلفة للعائلات المختلفة.

 

استمرّ الاستجواب المضاد لأبي علي أكثر من ساعتين. وقد سُئل عن نواح متنوعة للمأتم العربي وعاداته. وفي نهاية الاستجواب قصد المدعي مفاجأته بالسؤال الأساس: ألا تُطلق هتافات خلال الأجر والحداد؟

 

أبو علي: لا، الهتاف ممنوع.

 

المدعي:إذًا كيف تفسّر ما نراه جميعا في التلفزيون، عندما يسقط ما يسمى شهيد، ألا يؤكّد ذلك أنه في المأتم أو الحداد أيضاً تُطلق هتافات وشعارات؟

 

أبو علي: كلا، فقط في الجنازة وفي حالات نادرة عندما يسيرون حاملين الجثمان.

 

 

بعد سنة تقريباً على انتهاء المناقشات تدعو المحكمة الأطراف للاستماع إلى قرار الحكم. فيما بدأت التقارير الصحفية حول الموضوع منذ ساعات صباح ذلك اليوم. حضر أخصائيو القانون إلى استوديوهات الإذاعة لتحليل القرار. توقف بريق عشرات الكاميرات الموجّهة إلى عبد الجالس على كرسي الاتهام لحظة دخول القاضي. جلس القاضي. طلب من الحضور الذي نهض احتراماً له أن يجلس. أخرج نظارتيه من جيبه وأرسل نظراته إلى وسط القاعة. أعاد نظره إلى الأوراق أمامه. بدا كأنه يتصفح الأوراق الموجوده أمامه. طلب الهدوء من الحضور الذين سارعوا على إغلاق الهواتف الخليوية. يقرأ القاضي نص القرار إلى أن وصل إلى: "قرّرتُ تبرئة المتهم. لم يُثبِت الإدعاء بشكل قاطع ولا شكّ فيه أن المتهم شارك في مأتم أو حداد حيال إقامة دولة إسرائيل...".

 

تفجّرت عاصفة من النقاش فور قراءة نص القرار. هاجمت أحزاب اليمين الإسرائيلي محكمة الصلح في الخضيرة التي رضخت، حسب أقوالهم، للانتقادات الدولية وانتقادات اليسار الانهزامي. وأضافت أن المصلحة القومية اليهودية لم تكن نصب عينيّ المحكمة.  فيما فرحت أسرة عبد وأصدقاؤه بتبرئة ساحته. عبد شاب في الواحدة والعشرين من العمر، أنهى تعليمه الثانوي وبدأ العمل كميكانيكي في كراج في المدينة. ولدهشته، بدأ يتناهى إلى أسماعه في ضوء تبرئته همسٌ وشائعات بشأنه: " إنه متخاذل لم يقل الحقيقة بأن يوم النكبة هو فعلاً يوم مأتم وحداد لنا بسبب إقامة دولة إسرائيل"، "كيف برؤوه؟ فهم لا يبرئون عربي على مشاركته في مظاهرات؟". كما أن إمام حي الإغبارية المعروف بآدابه وبهدوئه، يفاجئ الجميع في صلاة الجمعة بانتقاده العلني لمحامي الدفاع في قضية عبد: " لقد انتظرنا قانون النكبة هذا، الذي أرسله الله إلينا هديةً، انتظرنا يوم فخرنا واعتزازنا أن يكون سجين النكبة الأول من حارتنا، انتظرنا أن تكون قصص أبناء حارتنا حول 48 الدفاع الوحيد في المحكمة.  وماذا كانت النتيجة؟ بيت أجر. ربما كان علينا أن نفتح بيت أجر اليوم على إضاعتنا الفرصة التاريخية التي مُنحت لنا؟".

 

قرّرت نيابة الدولة الاستئناف على قرار محكمة الصلح إلى المحكمة المركزية في حيفا. استمرت المداولات حوالي السنتين، قرّرت المحكمة المركزية عدم التدخّل في قرار محكمة الصلح. وصل الملفّ إلى المحكمة العليا التي ناقشته بهيئة مؤلفة من أحد عشر قاضياً. تطلّب من عبد أن يحضر، منذ تبرئته، كل الجلسات. وقد كلّفه ذلك مصروفات وخسارة أيام عمل. نوقشت في الجلسات الأولى في المحكمة العليا عدة مسائل مثل: هل موضوع الحزن، الحب، الأسى، الكراهية، الغضب والمأتم هي مسائل جنائية قابلة للحكم فيها؟ هل يُمكن معاقبة أحد على أمور في نفسه وقلبه؟ هل يسري القانون على كل مشارك أم على منظمي يوم النكبة فقط؟ هل هناك بُعد جنائي في سلوك "من يحاول" مخالفة قانون النكبة؟

 

في أحد الأيام يتوجه عبد الغاضب والمُنهك إلى ابن عمه الذي أنهى لتوه دراسة القانون بامتياز في جامعة تل أبيب، يسائله: " ليش بس أنا بحاكموني حسب قانون النكبة.  كل سنة في مظاهرة كبيرة ولا حدا حاكموه على هذا القانون".  شرح له ابن عمه أنه منذ سُُنّ قانون النكبة لم تعد المظاهرات في يوم النكبة تجري تحت شعار "إحياء النكبة"، وإنما "ضد قانون النكبة". وأنهم لا يُعاقبون أحدا على التظاهر ضد قوانين. وعمليا، فإنه اختراع جديد ابتدعه العرب في الدولة اليهودية. عندما حظرت المحكمة العليا عليهم تنظيم تأبين لذكرى جورج حبش لدواعي أمنية، نظّموا مظاهرة تحت عنوان "احتجاجاً على قرار المحكمة العليا بشان حبش". وعندما حظر وزير الأمن الداخلي على بلدية الناصرة تنظيم تظاهرة ثقافية بعنوان "القدس عاصمة فلسطين الثقافية"، نظّمت البلدية تظاهرة احتجاجية بعنوان "ضد قرار الوزير بشأن القدس". "كيف بدي أطلع من هالورطه؟" سأل عبد ابن عمه. قدّم إبن العم نصيحته القانونية.

 

في الجلسة التالية للمحكمة العليا بدأ الأطراف بمناقشة مسائل قانونية جديدة: هل أخطات محكمة الصلح في الخضيرة عندما حصرت التعاطي مع المأتم والحداد في حيّزه الخاص والشخصي كبيت أجر، أم كان عليها أن تتطرّق الى إمكانية وجود "مأتم عام" أو "يوم حداد عام وجماهيري"؟ وهل تُفسِح مسألة الحداد العام والمأتم الجماهيري المجال للعقاب الجماعي؟ هل معنى المأتم والحداد في القانون هو ذاتي أم عام؟ هل تفسير قوانين جنائية تكون وفقاً لما قصد إليه المشرّع أو حسب النص الحرفيّ لهذه القوانين؟ وقبل الانتهاء من البحث في هذه الأسئلة، نهض عبد طالباً تسجيل ملاحظة قصيرة أمام القضاة. "إني أتراجع عن إنكاري التهمة وأعترف بها، لقد كنت فعلاً في حالة مأتم وحداد حيال إقامة دولة إسرائيل عندما شاركت في المسيرة". خيّم الصمت على القاعة. برهة قصيرة أتاحت للقاضيات والقضاة أن يغيّروا من سحنات وجوههم، من سالبة ـ لا مبالية إلى جدية وغاضبة. "ندرك أن تصريحك هذا لا ينمّ عن نوايا سليمة بل تحركه دوافع غريبة، وفي كل الأحوال لن نبتّ في الأمر الآن. عليك أن تنتظر ريثما نعطي قرارنا النهائي والمبدئي في هذا الملفّ" ـ سوّغ رئيس المحكمة العليا. واستمرّ النقاش بدون إزعاج.

 

رُزق عبد، الذي تيسّر له خلال الجلسات أن يخطب ويتزوج، ببنت، ابنته البكر. لكل رجل في أم الفحم إسمان. إسم طفولته وشبابه الذي يمنحه إياه أهله وإسم يختاره هو عند بلوغه. في أم الفحم يحترمون جداً اسم البلوغ. فهو الأسم المقرّر بالنسبة لهم. سمى عبد ابنته نكبة فصار اسمه "أبو نكبة". ربما يساعده الأسم الجديد على الفوز باحترام خاص في مدينته.  ويقول عبد بحماس شديد وتلهف لزوجته، التي لم تبدِ معارضة للإسم "لا عرفات ولا أبو مازن ولا أحمد ياسين هم آباء النكبة، أنا هو أبو النكبة". حاول أبناء عائلته أن يقنعوه بالعدول عن قراره وألا يختار لابنته اسماً معناه كارثة ومأساة. لكنه رفض. الصحافة العبرية التي اهتمت بالنشر عن عبد من مرة لمرة منذ بدء محاكمته، نشرت قصة اسمه الجديد في الصفحات الأولى. طلب أعضاء كنيست من اليمين عقد جلسة طارئة للكنيست. "أيعقل أن تسجّل دولة إسرائيل في سجلها السكاني الأسم نكبة"؟، "أيعقل أن تدفع دولتنا رسوم ولادة ومخصصات أولاد لـ نكبة؟ ما هذا إذ لم يكن اعترافاً فعلياً منا بالنكبة؟" إدّعوا غالبية أعضاء الكنيست. في وقت لاحق عمدت الكنيست إلى تعديل قانون النكبة مضيفة إليه التعليمات التالية: "لا يُسمى شخص في إسرائيل باسم 'نكبة'. مَن يخالف أحكام هذا القانون لا يحظى بأي مستحقات اجتماعية وعقوبته السجن لثلاث سنوات".

 * حسن جبارين هو المدير العام لمركز عدالة

ملفات متعلقة: