"وليقُل الفلاسفة والمفكّرون ما يقولون.."؛ حيشين وجبران يُقّرآن سفر التكوين وأفلاطون في التماس قانون المواطن

د. إيال غروس | مجلة عدالة الألكترونية، العدد 26، حزيران 2006
الفهم المحدود للأسرة في قرار المحكمة، يدلّ على رفض مفهوم الحقّ إذ يشمل الاختيار الحقيقيّ والحرّ للزوج.

 

 

 

د. إيال غروس | مجلة عدالة الألكترونية، العدد 26، حزيران 2006

 

 

يتضمّن قرار الحكم بخصوص قانون المواطنة[1] الكثير من الجوانب المقلقة. فتأكيد نائب رئيس المحكمة العليا، ميشيل حيشين، على أنّه من الوارد تقيّيد الحقوق بسبب مصالح أمنيّة، من دون إجتياز الحظر المنصوص عليه في فقرة التقييد – فبحسب توجّهه في وسع مصالح كهذه أن تؤثّر على مجرّد تعريف الحقوق – يفتح الباب عمليًا على فرض تقييد غير محدود على الحقوق. ولو أضفنا إلى ذلك تأكيده الذي يجب بحسبه التعاطي مع سكّان المناطق المحتلة كرعايا عدوّ، والتلميحات المنتشرة في قرار حكمه بخصوص شرعية الإعتبارات الديموغرافية، فإنّ النتيجة قد تكون مصيرية بالنسبة لحقوق الإنسان لدى الفلسطينيين من جهتي الخط الأخضر، ولحقوق الإنسان والديمقراطيّة عامة. أمّا في السياق الأكثر عيني للحقّ في حياة أسريّة، فإنّ القاضي حيشين يعترف به في المستوى المبدئيّ، لكنه يعطيه معنىً يختزل مضمونه للغاية: فتأكيده على أنّه لا يوجد للزّوج الإسرائيلي حقّ في العيش مع زوجه في بلاده، يخلق، لممارسة ذلك الحقّ شروطًا، يمكن تسميتها شروطًا غير دستورية[2].

يجب إبداء الرّأي ليس في تأكيدات حيشين بخصوص المدى الضيّق للحقّ في حياة أسريّة فحسب، وإنّما أيضًا في وجهة نظره بخصوص السّؤال: ما هي الأسرة. فهو يشير في الفقرة السادسة والأربعين من قرار حكمه إلى "أنّنا جميعًا نتّفق" على أنّ "لكلّ إنسانالحقّ في الزواج وفي ممارسة حياة أسريّة". ويكمن تفسير ذلك في حقيقة أنّ "الإتفاق بين الرجل والمرأة، حياة الأسرة، قد نشأ قبل وجود الدولة وقبل أن تأتي الحقوق والواجبات إلى العالم.. فالرجل بحاجة للمرأة، والمرأة بحاجة للرّجل.. هكذا تمّ التعاهد بين الرجل والمرأة، وبولادة الأولاد قامت العائلة الموسّعة ووجدت. في داخل هذا كلّه خُلق الحبّ، ومن هنا، طالما أنّنا نتحدّث عن الأسرة، فحين جاءت الدولة  كان الوضع مهيّأ سلفًا، فأحاطت برعايتها ما حدّدته لنا الطبيعة. إنّ المجتمع والدولة قدّسا اتفاق زواج الرّجل والمرأة.." ويتابع حيشين: "وليقل الفلاسفة والمفكّرون ما يقولون؛ ففي بداية كلّ البدايات – جاء وجود الأسرة من إله من فوق، من الطبيعة، من المنظومة الجينية لدى الإنسان، هكذا هو الأمر في العلاقات بين الرّجل والمرأة وهو كذلك في العلاقات بين الأهل وأطفالهم".   

وبناءً على ذلك، فإنّ الأسرة التي تستحقّ الحماية، حسب وجهة نظر حيشين، هي الأسرة التقليدية، النواة: رجل – إمرأة - أطفال. وحدها هذه المنظومة، التي تقوم افتراضًا على نظام طبيعي وجينيّ، هي أسرة. وهناك فقط يخلق الحبّ.

في هذه السطور التي تبشّر بإيمان، بنظام طبيعيّ قبل قضائي وقبل خطابيّ بخصوص السؤال ما هي الأسرة، وربّما ما هو الحبّ أيضًا، ومن خلال تجاهل كون الأسرة مؤسّسة إجتماعيّة يتغيّر تبلورها في مجتمعات وأزمان مختلفة، يتردّد صدى موقف الأقليّة لدى القاضي يعقوب كدمي في قرار حكم دانيلوفيتش[3]. فقد قرّر القاضي كدمي أنّ شخصين من الجنس نفسه لا يمكنهما أن يكونا "زوجًا"، لأنّ الأمر يتناقض مع المعنى الذي منحته الحياة نفسها لهذا المفهوم وللمعنى "الطبيعيّ" للمصطلح. وعمليًا، جاء قرار حكم القاضي حيشين متوّجًا بإقتباسات تلموديّة شبيهة بتلك التي تظهر لدى كدمي، يُستقي أحيانًا من مصادر مماثلة (الإقتباس من سفر التكوين "ذكرًا وأنثى خلقَهما"[4]، يظهر لدى كليهما)، ومن نافل القول أنّ الحديث يجري عن توجّه يقوم بإقصاء أنواع كثيرة أخرى من الأسر. مثلاً: أُسر أحاديّة الوالدين، أُسر لزوجين من نفس الجنس، أُسر لأولاد بالتبنّي، وجميع الأسر غير القائمة بالضرورة على العلاقة الزوجيّة.

وحتّى بعد إكتشاف الشّبه الكبير بين رأي حيشين بخصوص قانون المواطنة وبين موقف كدمي في ملفّ دنيلوفيتش، يبقى السؤال: لماذا أشار حيشين إلى أنّ التوجّه الذي يعبّر عنه، والذي يُخرج العديد من الأسَر من تعريف الأسرة، يسري مفعوله "وليقل الفلاسفة والمفكّرون ما يقولون"؟ إلى ماذا يلمّح حيشين؟

 

 

لربّما أنّه من الممكن العثور على إجابة لهذا السؤال في قرار حكم القاضي سليم جبران، الذي انضمّ لموقف الأقليّة الذي قاده رئيس المحكمة العليا، أهرون براك. فقد اختار جبران، خلافًا لحيشين، الحديث عن أنّه "من طبيعة الإنسان.. البحث عن زوج أو زوجة له". هذه اللغة الحياديّة، على الرّغم من أنّها مقتصرة على النموذج الزوجي، (وترفض نماذج أخرى للأسرة، لا تقوم على الزوجيّة)، فهي تفتح الباب على أشكال مختلفة للزوجية. وفي حين قام حيشين بتدعيم أقواله بعدّة مقتبسات من سفر التكوين، توجّه جبران الى أحد أولئك الفلاسفة الذين ربّما يلمّح حيشين إليهم، فاقتبس ممّا أورده أفلاطون على لسان أريسطوفان[5] في رائعته "المأدبة": "لأنّنا إذا صرنا أصدقاء إله الحبّ، واتفقنا معه، فإنّنا سوف نكتشف أو سوف نقابل المحبوبين الذين هم حقًا محبوبونا... وإلى ذلك فإنّي أقول، عندما أفكّر في جملة الرّجال والنّساء، فإنّ الشرط لأجل أن يكون جنسنا سعيدًا هو أن نصل بالحبّ إلى غايته، وبالنسبة لكلّ منا، أن يقابل المحبوب المفضّل عنده، وبإختصار أن يعود إلى طبيعته الأصليّة. فإذا كان ذلك هو خير ما يكون، فلا بدّ من أن يكون الأفضل في الأحوال الراهنة هو الأشدّ تقاربًا في لقائه، وهو لقاء محبوب تتّفق طبيعته وتطلّعاتنا"[6]. ويشير جبران خلال تطرّقه إلى هذا الاقتباس إلى قلة الاختيارات التي يحقّق الإنسان فيها إرادته الحرّة، مثل أن يقوم باختيار الإنسان الذي يتقاسم حياته معه.

وبالفعل، فإن أقوال أرسطوفان التي اقتبس منها جبران، تدور بشكل مفصّل وأخّاذ حول ثلاثة أشكال من الحب: الحب بين الرجال والنساء، الحب بين النساء والنساء والحب بين الرجال والرجال. وعن الأخير يقول أرسطوفان إنّه ليس "بدافع الفجور" بل "لأنّ فيهم جرأة، وفيهم شجاعة الرجال، ويسلكون مسلك الذكور". وفي مقطع من الإقتباس الذي أورده جبران، والذي اختار القاضي تخطّيه مستبدلاً إياه بثلاث نقاط، دلالة على الحذف، يذكر أرسطوفان زوج رجال محبّين. ولكن حتى بعد هذا التخطّي، فإنّ روح الكلام لم تتغيّر وهي تتحدّث عن "جملة الرّجال والنساء".

على الرّغم من تخطّي المقطع الذي أشار بوضوح إلى رجلين متحابّين، فإنّ قرار حكم القاضي جبران، بلغته الحيادية من ناحية جندرية، وباختياره التوجّه إلى "المأدبة"، أحد أهمّ النصوص في التاريخ الإنسانيّ التي تناولت الأنواع المختلفة للحبّ، بين أجناس مختلفة وبين أبناء نفس الجنس، يفتح الإمكانية أمام جميع أنواع الحبّ والأسَر (تلك التي تقوم على أساس الزوجية، على الأقل). في المقابل، فإنّ قرار حكم القاضي حيشين يغلق الباب في وجه كل إمكانية محتملة سوى إمكانية العلاقة المتعارف عليها بين الجنسين. يجب الإشارة في هذا السياق إلى أنّ قانون المواطنة الذي يمسّ بذلك العدد الكبير من الأشخاص، يمسّ أيضًا بالأزواج من نفس الجنس، والذين لا يمكنهم العيش في إسرائيل. فبالنسبة لأزواج كهؤلاء، حتى الإمكانية التي يشير إليها قرار حكم حيشين، ويمكنهم بحسبها العيش معًا في المناطق الفلسطينية، هي إمكانية غير واردة على الغالب. والسّبب في ذلك هو صعوبة تكوين خلية أسريّة قائمة على زوجين من الجنس نفسه في المجتمع الفلسطينيّ.

على أيّة حال، فهناك علاقة وطيدة بين الحالة الزوجيّة المتعارف عليها بين الجنسين لدى حيشين، وبين النتيجة التي يتوصّل إليها في قرار حكمه: فالفهم المحدود للأسرة في قرار حكمه، والذي يقصرها على الأسرة النواة الذكورية، يدلّ على فهم ضيّق لفكرة الحقّ في حياة أسريّة، وعلى رفض مفهوم الحقّ بوصفه يشمل إمكانيّة الاختيار الحقيقيّ والحرّ للزوج. هذا ما يُستشفّ من المعنى الضيق الذي يعطيه قرار الحكم للحقّ في حياة أسريّة، ومن قرار حيشين ردّ الإلتماس الذي هاجم دستورية قانون المواطنة. في المقابل، فإنّ قرار حكم جبران، سواء في نتيجته الختاميّة – التي انضمّ فيها إلى الموقف الذي قاده الرئيس براك، الذي يعتمد هو الآخر في قرار حكمه لغة رحبة وحياديّة بخصوص الزوجية والأسريّة- أو في توجّهه إلى "المأدبة"، يمثّل وجهة نظر تعترف بشكل عميق بحقّ الإنسان في إختيار حبيبه أو حبيبته، وفي إختياره مع من يتقاسم حياته.

 



 * د. أيال غروس هو محاضر كبير في القانون الدستوري والدولي في جامعة تل أبيب.

[1]إلتماس 7052/03 عدالة وآخرون ضد وزارة الداخلية (قرار حكم من يوم 14.5.06، لم يُنشر بعد).

[2] للبحث حول هذه الجوانب من قرار الحكم يُنظر:

أيال غروس، "من حبيب إلى عدو: العدالة، الحقيقة، الاستقامة والمنطق السليم بين إسرائيل واليوتوبيا في قرار حكم قانون المواطنة" (بالعبرية، لم يُنشر بعد).

[3]  إلتماس 721/94 دنيلوفيتش ضد إل-عال  قرار حكم م ح (5) 749. حول بحث نقدي، يُنظر: أيال غروس "دنيلوفيتش، شطاينر ونظرية الحرية الجنسية"، مشباط نوساف (5) 1 47 (2001)؛Aeyal  Gross, "Challenges to Compulsory Heterosexuality: Recognition and Non-Recognition of Same-Sex Couples in Israeli Law',  Robert Wintemute and Mads Andenas, eds., Legal Recognition of Same-Sex  

       Partnerships:  A Study of National, European and International Law 391

, (2001).

[4] سفر التكوين، الاصحاح الأول، الآية 27.

[5] أفلاطون، "المأدبة أو في الحب"، ترجمة: علي سامي النشار، الأب جورج شحاتة قنواتي، عباس أحمد الشربيني، دار الكتب الجامعية، القاهرة 1970.

[6] ن.م. ص 48 و 49. (ملاحظة المترجم: جرى اعتماد نصّ هذا الاقتباس كما  ورد في الترجمة العربية للكتاب، وكان المقال الأصليّ اعتمد ترجمة عبرية موازية).

ملفات متعلقة: