الجندر والقوميّة في القانون القضائي: قرار حكم القاضيات في إلتماس لم الشمل

سوسن زهر | مجلة عدالة الألكترونية، العدد 26، حزيران 2006
هل يوجد للقاضيات صوت متميّز مُقارنةً بصوت زملائهنَّ القضاة من الرّجال، ولو كان، فكيف يمكن أن نقيس هذا الاختلاف؟

 

 سوسن زهر | مجلة عدالة الألكترونية، العدد 26، حزيران 2006

 


"We bring an individual and collective perspective to our work that cannot be achieved in a system which reflects the experiences of only a part of the people whose lives it affects"[1]

 

ردت المحكمة العليا إلتماس عدالة وآخرون ضدّ وزارة الداخليّة، الذي بحث لمّ شمل عائلات عربية - فلسطينيّة في دولة إسرائيل[2]، بغالبيّة آراء ستّة قضاة، بينهم القاضية مريام ناؤور، مقابل أقليّة القضاة: ثلاث قاضيات (دوريت بينيش، إستر حيوت وأيالا بروكاتشا)، إضافة للقاضي العربي (سليم جبران) ورئيس المحكمة المنتهية ولايته (أهرون براك). سأتناول في هذه المقالة القصيرة قرارات حكم قاضيات المحكمة العليا، في محاولة لفهم ما إذا كانت هناك قيمة مضافة لمشاركة نساء قاضيات في قرار الحكم الهام هذا. تثير هذه المسألة عددًا من الأسئلة بخصوص دور النساء كقاضيات، مثلاً: هل توجد قيمة مُضافة لتعيين نساء على عرش القضاء؟ هل يوجد للقاضيات صوت متميّز مُقارنةً بصوت زملائهنَّ القضاة من الرّجال، ولو كان، فكيف يمكن أن نقيس هذا الإختلاف في الصوت؟ إضافةً إلى ذلك، هل يعني الاختلاف المذكور أن تكون النساء القاضيات منحازات إلى قضايا النّساء، وهل يتوجّب على النّساء القاضيات أن يمثّلن، بشكل حصريّ، مصالح النّساء في المسائل المُرتبطة بهنّ؟[3]

 

أشارت الأدبيّات القانونيّة إلى أربعة أدوار يمكن، وفقًا لها، فحص القرارات القضائيّة الصّادرة عن قاضيات.[4] أوّلاً، الدّور التّمثيليّ (Representative)، الذي تدعم النساء القاضيات، وفقًا له، طرف النّساء حين تكون القضيّة الماثلة أمامهنّ ذات تأثير مباشر على حياتهنّ أو مكانتهنّ، كالملفّات المتعلّقة بالتحرّش الجنسيّ، العنف داخل العائلة، مسألة الإجهاض، تشغيل النساء وتمثيلهنّ في أماكن العمل، وما إلى ذلك. ثانيًا، الدّور الرّمزي (Token)، وتقوم القاضيات، وفقًا له، بملاءمة أنفسهنّ وقراراتهنّ لموقف الأغلبيّة الذكوريّة الطاغية في المحكمة التي يشاركنَ في هيئتها، من دون إبراز، أو لفت الإنتباه إلى الصّوت الخاصّ الذي يميّزهنّ كنساء بوصفهنّ أقليّة في جهاز القضاء. ثالثًا: الدّور الخارجيّ (Outsider)، وهو نقيض الدور الرّمزي. ففي هذا الدور تنزع النّساء القاضيات إلى عدم التقيّد بالمعايير المتعلّقة والمتماثلة مع المؤسّسة التي ينتمينَ إليها، وبناءً على ذلك فإنهنّ يتجاهلنَ و/أو لا يتعاطينَ مع التقاليد المؤسّسيّة، ويكون في وسعهنَّ اتّخاذ قراراتٍ تتناقض وموقف المؤسّسة و/أو السباحة ضدّ التيّار و/أو تشكيل أقليّة في الرأي. أخيرًا، دور "الصّوت المختلف" (Different Voice)، القائم على نظريّة عالمة النفس كارول غيليغن، ووفقًا له، فإنّ النّساء يتبنّينَ توجّهًا مُختلفًا للأخلاق، يفكّرنَ بشكل مختلفٍ عن الرّجال، ويعرضنَ وجهة نظر جندريّة ترتكز إلى كينونة حياتهنَّ كنساء في المجتمع.

 

لغرض فحص ما إذا كانت القاضيات قد أخذن على أنفسهنَّ دورًا تمثيليًا (representative) في قرارات حكمهنَّ، يجب أوَلاً فحص ما إذا كانت المسألة قيد البحث تتعلّق مباشرةً وبشكل حصريٍّ بالنساء، وإلى أيّ مدى تؤثّر على حياتهنّ. ينزع قانون المواطنة، موضوع الإلتماسات، إلى ردّ طلبات لمّ الشّمل بين مواطنين عرب وبين سكّان المناطق المحتلّة، بتسويغ مفادُه أنّ الزوج الفلسطينيّ يشكّل خطرًا أمنيًّا دائمًا. يؤثّر هذا القانون على الجميع: الرجال، النساء، والأطفال أيضًا. فهو يمسّ، ضمن أمور أخرى، بالحقّ في حياة أسريّة، بالحقّ في الحبّ، وبالحقّ في إدارة ذاتية للنواة الأسريّة. نتيجةً لذلك فإنّ القانون يمسّ بالحقّ في الأبوّة والأمومة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّه يميّز ضدّ المواطنين العرب على خلفيّة قوميّة. من هنا، فإنّ القضيّة تؤثّر أكثر، وبشكل بارز وخطير، على النّساء. وحتى على فرض أنّنا نقبل بقرار حكم غالبيّة قضاة المحكمة، الذي جرى بموجبه سنّ القانون على خلفيّة النزاع الإسرائيليّ - الفلسطينيّ المسلّح، ومن هنا فإنّ غايته هي أمنيّة، فإنّ تأثير النزاعات المسلّحة على النّساء هي مسألة سبق أن تمّ الاعتراف بها في القرار رقم 1325 الصّادر عن مجلس الأمن الدولي المنبثق عن هيئة الأمم المتحدة، وعنوانه "النساء، السلام والأمن". وهو قرار اعترف، أيضًا، بحقيقة أنّه يوجد في مناطق النزاعات تأثير أكثر خطورةً، و/أو تأثير مختلف على الأقلّ، على النّساء والبنات.

 

بناءً على ما تقدّم، لا يمكن في هذه الحالة تحليل قرارات القاضيات كمن يطبّقن التوجّه التّمثيليّ. ويتجسّد غياب هذا التوجّه، أيضًا، في التّحليل الذي اخترنه بغية التوصّل إلى الإستنتاج القضائيّ الذي توصّلنَ إليه؛ كلّ واحدة منهنّ بطريقتها. فعلى سبيل المثال، يُظهر التمعّن في قراري حكم القاضيتين بينيش وحيوت، اللتين انضمّتا إلى موقف الأقليّة، أنّ النتيجة النهائيّة التي توصّلتا إليها تقوم على توازن "جافّ" بين الحقّ في حياة الأسرة وبين الدّفاع عن أمن الدولة. إعترفت القاضيتان بالحقّ في حياة أسريّة في إسرائيل كحقّ دستوريّ يشكّل جزءًا من الحقّ في الكرامة المنصوص عليه في قانون أساس: كرامة الإنسان وحرّيته، واعترفتا، أيضًا، بغاية قانون المواطنة كغايةٍ أمنيّة جاءت لغرض حماية أمن المواطنين وحياتهم في وجه أيّ تهديد أمنيّ يُوشك على الحدوث في أعقاب دخول "مخرّبين محتملين"، على حدّ قولهما، من شأنهم استغلال إجراء لمّ شمل العائلات بغية المسّ بأمن الدولة. أما ما رجّح الكفّة من جهتهما، وليس أيّ شيء آخر، فقد كان قلّة النسبيّة المتجسّدة في الوسيلة الجارفة التي نُصّت في القانون بغية منع لمّ شمل العائلات عن مقدّمي الطلبات كافةً. ولو نصّ القانون على وسيلة للفحص الفرديّ بغية فحص الخطورة الأمنيّة للأزواج الفلسطينيين طالبي لمّ الشمل مع عائلاتهم، لكانت هذه الوسيلة تستوفي إمتحان النسبيّة، ولكانت قاضيتا الأقليّة انضمّتا إلى الأغلبيّة.

 

إنّ محاولة فحص تسويغات القاضيتين بينيش وحيوت من زاوية "الصوت المختلف" (different voice) لم تنجح، أيضًا. فتسويغاتهما لم تبقِ مكانًا لإبراز أيّ "صوت مختلف" يستند الى تجربتهما الحياتيّة وكينونتهما كنساء في المجتمع. ففي مجرّد الاستعداد لتبنّي إستعمال المركّب الأمنيّ وجعله يخترق عمقَ تحليل التوازنات بين الحقوق، هناك ما يشهد على تبنّي خطاب "أمنيّ – عسكريّ" أكثر من كونه "صوتًا مختلفًا" لدى النّساء القاضيات. وإنّ تمعّنًا بعمق أكثر في قراري الحكم اللذين أصدرتاهما فإنّه يدلّ على أنّهما تفتقدان لأيّ تحليل ورؤية جندريّين (gender mainstreaming) في كلّ ما يرتبط بمعنى تطبيق القانون ورفض طلبات لمّ شمل العائلات بين النساء والرجال، وتمزيق حياة أسريّة كاملة، والتأثير المتميّز لذلك على حياة النساء بشكل خاصّ.

 

ليس ثمّة شكّ، ومن دون توجيه نقد للمسألة ضمن هذا الإطار، في أنّ الموقع الاجتماعي للنساء العربيّات، سواء كنّ مواطنات دولة إسرائيل أو مواطنات من سكّان المناطق المحتلة، يتمحور في الحيّز الخاص، في البيت والأسرة. إنّ تمزيق العائلات الذي تمّ، أو الذي سيتمّ في أعقاب المصادقة على سريان مفعول قانون المواطنة، يؤدّي إلى إضطرار المرأة الفلسطينيّة من الأراضي المحتلّة التي تزوّجت من رجل فلسطينيّ مواطن في إسرائيل، للعودة إلى مسقط رأسها في مدينتها أو قريتها في المناطق المحتلّة، حيث لا يوجد شك في أنّه يُتوَقّع لها حياة صعبة تموضعها في مكانة اجتماعية - اقتصادية أكثر تدنّيًا، وفي تدريج أدنى ممّا كان عليه قبل زواجها. فهي ستعتبر منفصلة و/أو مطلّقة، وإذا ما أخذت أطفالها معها فستعيش كوالدة أحاديّة منزوعة من أيّة حقوق إجتماعية أو إقتصادية. فهؤلاء النّساء يستصعبْنَ موضعة أنفسهنّ ثانيةً في بيت الوالد و/أو العائلة. ومن المؤكّد أنّهنّ سيستصعبن العثور على عمل في المناطق المحتلّة لغرض إعالة أنفسهنّ وأولادهنّ. وحتى لو وجدنَ مكان عمل، فلا شكّ في أنّهنّ سيتقاضينَ أجرًا متوسّطًا على الأكثر. في المقابل، فلو بقينَ في إسرائيل كسكّان غير شرعيين، سيبقينَ معرّضات للطرد في أيّة لحظة، وستُسلب منهنّ الحقوق الإجتماعيّة المعطاة للنّساء المتزوّجات والأمّهات في إسرائيل. أمّا النساء الفلسطينيّات مواطنات دولة إسرائيل فسيتأثّرن بنفس القدر من تمزيق العائلات، لأنّ المعايير الإجتماعية في المجتمع العربي متشابهة في الموقعين.

 

أقرّت القاضية بينيش، على سبيل المثال، في قرار حكمها بأنّها تعترف فعلاً بالحقّ في الحياة الأسريّة كحقّ دستوريّ يشمله الحقّ في الكرامة، لكنّها تضيف أنّ هذا يقتصر على المعنى المحدود بمستوى نواة ذلك الحق[5]. فمن جهتها، نواة الحق في حياة أسريّة هي حقّ الإنسان الأساسي في اختيار شريك الحياة الزوجيّ وتحقيق وجود الخليّة الأسرية. وماذا بشأن كلّ ما يحيط بذلك؟ هل يمكن فعلاً تقسيم الحقّ في حياة أسرية إلى حقوق ثانويّة، بينها ما هو مهمّ وأقلّ أهميّة؟ وفوق ذلك، تعترف القاضية حيوت بالحقّ في حياة أسريّة كحقّ دستوريّ، بل تضيف أنّ "حقّ الإنسان في اختيار الشريك الزّوجي الذي يرغب بإقامة أسرة معه، وكذلك حقّه في إقامة بيت في الدولة التي يعيش فيها، هما برأيي حقوق إنسان من الدرجة الأولى"[6]. لكن القاضية حيوت تعود في معرض حديثها إلى تبنّي الخطاب "الأمني" الذي تبنّاه نائب رئيس المحكمة العليا، القاضي ميشيل حيشين، الذي قاد رأي الأغلبيّة، لتُقرّر أنّ "فرض تقييدات على لمّ شمل عائلات مع سكّان المنطقة بسبب حاجات الأمن هو ضرورة، وهو لا يستدعي إدانة"[7]. كما ورد سابقًا، فإنّ الاستنتاج الذي توصّلتْ إليه حيوت في ختام قرار حكمها، استند إلى قلّة النسبية التي يشملها المسّ الجارف في حياة الأسرة.

 

 

في المقابل، تعترف القاضية بروكاتشا هي الأخرى، أيضًا، بالحقّ في حياة أسريّة بشروط من المساواة كجزء من الحقّ الدستوري في كرامة الإنسان[8]. يمكن أن نلمس في قرار حكمها توسُّعًا في الحقّ بحياة أسريّة فيما يتجاوز النواة التي أشارت إليها القاضية بينيش. فمثلاً، تؤكّد بروكاتشا على "حقّ الزّوج الإسرائيليّ في أن تعيش أسرته، زوجه وأولاده، معه في إسرائيل"[9] وعلى أنّ "حقّ الإنسان في أسرة هو من أسس الوجود البشريّ. من الصّعب وصف حقوق إنسان تتساوى معه من حيث الأهميّة والقوّة. فهو يدمج في داخله الحقّ في الأبوّة والأمومة وحقّ الطفل في النموّ في حضن والديه الطبيعيين. وهما يشكّلان معًا الحقّ في خصوصية حياة الأسرة"[10]. على الرّغم ممّا ورد، يمكن ملاحظة أنّ قرار حكم القاضية بروكاتشا برز بوصفه "خارجيًّا" (outsider). فهي تفحص الاعتبار الأمنيّ ضمن إجراء ذي مرحلتين من الصّدق والقوة[11]. وفي حين أنّ القاضيات والقضاة كافة، ما عدا القاضي جبران، أقرّوا أنّ الاعتبار الأمني هو الأساس من وراء سنّ القانون، فقد وجدت القاضية بروكاتشا أنّه يصحّ الخروج عن الفكرة المتّفق عليها التي جرى التّعبير عنها لدى القضاة والقاضيات، وذلك من خلال التشكيك في الإعتبار الأمني لصالح الاعتبار الديمغرافيّ.  وأقرّت القاضية بروكاتشا، في نهاية الأمر، أنّه لا يمكن الإعتماد على الاعتبار الأمني في الفحص الدستوري، لأنّ الدولة لم تعتمد عليه كأساسٍ للتشريع الذي كان قيد الاختبار[12]. وقد أقرّت، كزملائها في مجموعة الأقليّة، بأنّ الدولة لم تُبيّن أنّ المسّ الجارف بالحقّ الدستوري يستوفي إختبار النسبية في فقرة التقييد[13]. وهكذا فإنّ قرار حكم بروكاتشا يجمع ما بين "الصوت المختلف" وبين الدور الخارجي، لأنّها قامت من جهة بتوسيع مضمون الحقّ في حياة أسريّة، وسمحت لنفسها، من جهة ثانية، بألا تكون مقيّدة برأي الأغلبيّة في هذا الصدد، بل شذّت عنه. لكنّ هذا التحليل يقيم وزنًا أكبر للدور الخارجي، لأنّ القاضية بروكاتشا قامت، وفقًا له، بخطوة شجاعة إضافيّة حين قارنت ما بين المسألة الماثلة أمام المحكمة وبين قضيّة Korematsu. إذ جرى، خلال الحرب العالمية الثانية، وضع سكّان ومواطنين أمريكيين من أصل ياباني قيد الإحتجاز بسبب قلّة الولاء التي أبداها أفراد قلائل من نفس الأصل للولايات المتّحدة، ودعت بروكاتشا إلى الامتناع عن الإقدام على خطأ على شاكلة قرار حكم أغلبيّة قضاة المحكمة الأمريكيّة في قضيّة Korematsu، حين صادقت على دستوريّة الوسائل الجارفة التي تمّ وضعها ضدّ المواطنين من أصل يابانيّ. اعتمد قضاة الأغلبيّة في تلك القضية على تسويغات تشبه إلى حدّ بعيد تسويغات موقف الأغلبيّة في قضيّة قانون المواطنة في إسرائيل. حتى أنّ القاضية أكّدت كيف أنّه جرى، ضمن إعادة تفكير دستوريّ لاحق، الإعتراف بالخطأ في قرار الحكم في قضيّة Korematsu كـ "خطأ واضح"[14]، كما قالت، ووصفت كيف أنّ قرار حكم أغلبيّة القضاة في القضيّة الأمريكية "يعتبر بنظر كثيرين كإحدى الحوادث الأشدّ ظلامية في التاريخ الدستوري لدول الغرب"[15]. لا شكّ في أنّ المقارنة بين القضيتين تشكّل خروجًا حادًا على الخطاب الأمني الإسرائيلي المتعارف عليه، وهي تموضع بروكاتشا في الطرف المُغالي الراديكالي من حيث مواقف القاضيات والقضاة التي جرى التّعبير عنها في قرار الحكم. حتّى أنّ موقفها تعرّض لنقد حادّ من جانب بعضٍ زملائها القضاة، كما يتّضح فيما يلي.

 

في المقابل، فإن التمعّن في قرار حكم القاضية ناؤور يقود إلى نتائج مختلفة تمامًا. فهي تتبنّى رأي القاضي حيشين، تردّ الالتماسات، وتقرّر أنّ "للزوج الإسرائيلي لا تحقّ  حقوق دستورية، كجزء من الحقّ في الكرامة، بتحقيق حياته الأسريّة مع زوجه الأجنبيّ، في إسرائيل بالذات"[16]، وهي تضيف أنّ القانون لا يمسّ، أيضًا، بمبدأ المساواة، بفعل وجود اختلاف ذي صلة لا يمسّ بكرامة الإنسان، وعليه فإنّ الأمر لا يشكّل تمييزًا[17] . حتى إنّها تقطع شوطًا كبيرًا حين تقرّ أنه حتّى لو وجد مسّ بمبدأ المساواة، "فمن الممكن التخلّص من المسّ عبر مقارنة مكانة المجموعتين: المجموعة المميّز ضدّها مقابل مجموعة المقارنة... وفي موضوعنا: إذا جرى إلغاء إمكانيّة لمّ شمل العائلات بخصوص مواطني إسرائيل وسكانها كافةً، لا يتبقّى أساس لإدّعاء المسّ بالمساواة. وعليه، فلو افترضنا أيضًا أنّه يوجد في القانون مسّ بالحقّ في المساواة، يمكن للمشرّع أن يعيد إنتاج المساواة بين المجموعات بهذه الطريقة"[18]. أي أنّ القاضية ناؤور لا تكتفي بالموافقة على المسّ بالحقّ في حياة أسريّة في هذه الحالة، بل إنّها تقترح، أيضًا، إلغاء إمكانيّة لمّ الشّمل عن كافة المواطنين والسكّان في إسرائيل، كي لا تكون أساسًا لادّعاء المسّ بالمساواة. والأمر نفسه يتمّ في تحليل الاعتبار الأمنيّ، إذ أنّ تحليل القاضية ناؤور يتبنى الموقف الأمني الخاص بالدولة وبقضاة الأغلبية معًا، بما في ذلك موقف القاضي حيشين. لا شكّ في أنّ قرار حكم القاضية ناؤور يتّسم بالطابع الرّمزي (token)، كون القاضية لاءمت قرار حكمها لموقف الأغلبيّة الطّاغية بين قضاة المحكمة العليا، وكذلك لموقف المؤسّسة، من خلال الامتناع المطلق عن الخروج عن المعايير التي تحدّد المؤسّسة التي تنتمي إليها.

 

وإذا كنّا قد وضعنا بروكاتشا في الطرف المغالي الراديكالي الذي عبّر عن موقف خارجيّ تمامًا، فإنّ قرار حكم القاضية ناؤور يقع في الجانب المغالي الثاني. وقد وجد هذا الأمر تعبيرًا في توجيه النّقد للمقارنة التي طرحتها بروكاتشا بين قضيّة لمّ الشّمل وبين القضيّة الأمريكيّة. وقد انضمّت ناؤور في هذا الصدد إلى النقد الحادّ الذي وجهه القاضي حيشين[19]. وأشارت ناؤور نفسها إلى أنّه بمجرّد التذكير بقضيّة Korematsu سيئة الصيت في تاريخ الأمّة الأمريكية، فقد قامت القاضية بروكاتشا "بالمبالغة"، لا بل إنها "تبعث تحذيرًا في قرار حكمها"[20]. وهو تحذير غير مقبول على ناؤور. فوفقًا لإدّعائها لا يوجد أساس للمقارنة بين القضيّتين، على الرّغم من أنّها تعتقد بوقوع خطأ لدى المحكمة العليا الأمريكيّة.

 

للتلخيص، صحيحٌ أنّ غالبيّة القاضيات كُنّ ضمن مجموعة الأقليّة في قرار الحكم هذا، وشكّلن غالبيّة ضمن موقف الأقليّة (التي تألف أعضاؤها من ثلاث قاضيات، قاضٍ عربيّ وقاضٍ يهوديّ)، لكن لا شكّ في أنّ قرارات حكمهنّ كانت منقطعة عن الكينونة النسائيّة. وفيما عدا القاضية بروكاتشا، فإنّ بقيّة القاضيات قد تبنّين الخطاب الأمني - القومي السّائد في المحكمة العليا. صحيحٌ أنّ القاضية بروكاتشا خرجت عن هذا الإجماع، لكن من الصّعب نسب موقفها إلى الخطاب النّابع من الكينونة النسائيّة، في غياب مميزات أخرى تعزّز ابتعادها عن الخطاب الطاغي. مع ذلك، يمكن نسب قرار حكمها إلى موقف قيميّ شخصيّ منقطعٍ عن انتمائها الجندريّ[21]. إنّ الخطاب القوميّ - العسكريّ هو السّائد في قرار الحكم. وعلى أيّة حال، فإنّ محاولتي وصف الفروق بين القاضيات وبين القضاة في الخطاب القضائيّ الإسرائيلي، على أساس الانتماء الجندري، لم تفلح. يبدو أنّه لا وجود له عند حضور الخطاب القوميّ اليهوديّ - الصهيونيّ مقابل الهُوية العربيّة. وهكذا، فإنّ حضور الهُوية العربيّة في قرار الحكم قد غيّب الهُويّة النسائيّة لدى القاضيات من الوجود.

 



 * محامية في عدالة – المركز القانوني لحقوق الأقليّة العربيّة في إسرائيل

[1] إقتباس من أقوال قاضية المحكمة العليا في ولاية يوتا الأمريكية، القاضية كريستين دورهايم، حين سُئلت عن النّساء القاضيات. الاقتباس مأخوذ من:

Elaine Martin, Men and Women on The Bench: Vive la Difference?, 73 Judicature 204 (1990).

[2] إلتماس 7052/03 عدالة وآخرون ضد وزير الداخليّة وآخرين (قرار حكم من يوم 14.5.06، لم يُنشر بعد).

[3] يُنظر:

Elaine Martin, Women on the Bench: A Different Voice, 77 Judicature 126 (1993).

[4]  حول دور النّساء على عرش القضاء، يُنظر:

David Allen, Diane Wall, Role Orientation and Women State Supreme Court Justices, 77 Judicature 156 (November-December 1993).

[5] الفقرة 6 من قرار حكم القاضية بينيش.

[6] الفقرة 4 من قرار حكم القاضية حيوت.

[7] المصدر نفسه.

[8] الفقرة 1 من قرار حكم القاضية بروكاتشا.

[9] المصدر نفسه.

[10] الفقرة 6 من قرار حكم القاضية بروكاتشا.

[11] الفقرات 11 حتى 16 من قرار حكم القاضية بروكاتشا.

[12] الفقرة 14 من قرار حكم القاضية بروكاتشا.

[13] الفقرة 19 من قرار حكم القاضية بروكاتشا.

[14] الفقرة 21 من قرار حكم القاضية بروكاتشا.

ملفات متعلقة: