الفلسطينيون ذوو المحدوديات في إسرائيل: بين التمييز القومي والإقصاء الاجتماعي

مصطفى شلاعطة وسعاد ذياب| مجلة عدالة الإلكترونيّة، العدد 67، كانون الأوّل 2009
ذوي المحدوديات في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل يحيون إقصاءً اجتماعيًا داخليًا.

 

هناك العديد من المصطلحات السّائدة وسط شرائح مختلفة في ضمن المجتمع العربي في إسرائيل، تتناول بالتعريف مجموعة مركّبة ذات مميزات كثيرة، يتشاطر جميع أعضائها قاسمًا مشتركًا واحدًا: "المحدودية". نحن نتحدث عن المعوّقين، المحدودين، ذوي الاحتياجات الخاصة، ذوي التحديات، ذوي القدرات والأشخاص الذين يحيون بمعية المحدوديات. هذا جزء -ليس إلا- من هذه المصطلحات، التي من المفترض بها، للوهلة الأولى، أن تساعد في تحسين وتطوير الاتصال بما يتعلق بمسألة المحدودية وفهمها. ولكن، على أرض الواقع، تعكس كثرة المصطلحات مدى البلبلة التي تحيط بهذه المسألة ومدى حجم الإقصاء اللاحق بجمهور ذوي المحدوديات.

 

 

 

 

يحوي كل مصطلح منظومة قيمية ومقولة أيديولوجية، تقومان بتأسيس التعامل والمواقف والموضعة/المكانة الاجتماعية، كما تعمل على تعزيزها. ويتراوح مدى هذه القيم ابتداءً من المدارك التي ترى في ذوي المحدوديات أشخاصًا مساكين يحتاجون إلى الشفقة والرحمة، وحتى المدارك التي ترى فيهم مجموعة سكانية ذات قدرات كثيرة وتستحق المشاركة الكاملة والدمج في جميع مرافق المجتمع الحياتية: من مجال العمل وحتى مجال الترفيه وتجزية الوقت. وقد أكل الدهر وشرب على مصطلح "معوّقين" الوارد في قانون التأمين الوطني اليوم، كونه مصطلحَ وصاية يَنسب لهذه المجموعة الاتكالية والعجز.

 

وتقوم معاهدة الأمم المتحدة حول حقوق الأشخاص ذوي المحدوديات التي تم تبنيها في 13 كانون الثاني 2006، والتي وقعت عليها دولة إسرائيل في 30 آذار 2007 (الأمم المتحدة، 2006)، بتبني مصطلح "أشخاص ذوي محدوديات" (People with Disabilities)، من أجل وصف الأشخاص ذوي المحدوديات الجسدية والحسية والذهنية والنفسانية. كما أنّ هذا المصطلح معتمد اليوم في الدول الغربية وفي القانون الإسرائيلي. وقد باتت مسألة استبدال هذا المصطلح بمصطلحات تعبر عن المزيد من المساواة والنزاهة والعدل- مسألة وشيكة.

يعيش في إسرائيل اليوم ما يقرب مليونًا ونصف مليون شخص من ذوي المحدوديات المتوسطة وحتى الصعبة. كما أنّ نسبة ذوي المحدوديات في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل هي ضعف نسبتهم في المجتمع اليهودي. 17.2% من البالغين في ضمن المواطنين العرب الفلسطينيين يعانون محدوديات صعبة، مقابل 8.7% من البالغين في المجتمع اليهودي (بن موشيه، روفمن وهبر، 2009). ويصل مجمل عدد العرب البالغين من ذوي المحدوديات المتوسطة أو الخطيرة في إسرائيل إلى 170 ألفًا، وهم يشكلون 26% من ذوي المحدوديات في المجتمع العربي، بحيث تزيد هذه النسبة بكثير عن نسبة ذوي المحدوديات المتوسطة أو الصعبة في المجتمع اليهودي- 17% (نؤون، 2009).

 

كما أنّ مستوى ثقافة الأشخاص من ذوي المحدوديات في المجتمع العربي أقلّ من ذلك السائد في وسط الأشخاص ذوي المحدوديات في المجتمع اليهودي. فـ 19% من ذوي المحدوديات العرب لم يُنهوا دراستهم الابتدائية مقارنة بنسبة 5% في المجتمع اليهودي. وهناك 21% فقط من العرب ذوي المحدوديات يعملون في سوق العمل، مقابل 49% من اليهود (نؤون، 2009).

 

الواقع السياسي والاجتماعي

يعاني العرب الفلسطينيون ذوو المحدوديات في إسرائيل تمييزًا مضاعفًا. ويتعلق أحد مستويات التمييز بكون هؤلاء الأشخاص ذوي محدوديات؛ فيما يتعلق المستوى الثاني للتمييز بانتمائهم إلى أقلية قومية تعاني التمييز والإقصاء من طرف المؤسسة والأغلبية المهيمنة. ويمكننا العثور على أمثلة لهذا التمييز في جميع مناحي الحياة، حيث تعاني جودة الخدمات التي توفرها الدولة لذوي المحدوديات العرب النقصانَ، كما أنّ هذه الخدمات تنعدم كلية في عدد من الحالات (سندلر-لف وشاحك، 2006):

·         تكاد ترجمة الاستمارات الرسمية إلى العربية أن تكون معدومة. فمثلا، لا يمكن العثور على صيغة عربية للاستمارات المطلوبة لتسوية توفير الخدمات الضرورية المخصصة للأشخاص ذوي المحدوديات النفسانية، رغم نسبة العرب الفلسطينيين العالية ممّن يعانون المحدوديات النفسانية.

·         الكثير من الخدمات غير متاح ومتوفر لذوي المحدوديات في مناطق سكناهم. ولذلك يضطرون إلى السفر لمسافات طويلة لتلقي هذه الخدمات، وفي العديد من الحالات يفضلون التنازل عنها سلفًا (سندلر وشاحك، 2006).

·         بالرغم من وجود القانون الذي يُسوّي الإتاحة في الأماكن العامة، إلا أنّ قلة قليلة فقط من المباني العامة في البلدات العربية تتمتع بالإتاحة لذوي المحدوديات. وفي جزء من البلدات نجد فروعًا لمؤسسة التأمين الوطني تفتقر لهذه الإتاحة، رغم أنه من المفترض بهذه الفروع أن تقدم الخدمات لهؤلاء الأشخاص.

·         لا يجري دمج أعضاء ناطقين بالعربية في الكثير من لجان الفحص، الأمر الذي يُصعّب من التواصل بين الفاحص والخاضع للفحص ويؤدي إلى تشخيصات منقوصة لا تعكس الوضع الحقيقي.

·         من الممكن للهوة الكبيرة بين مستوى الخدمات الطبية المتوفرة للمجتمع العربي وبين تلك الممنوحة للمجتمع اليهودي، أن تؤدّي إلى رفع احتمال تدهور ذوي المشاكل الطبية المزمنة باتجاه محدوديات خطيرة. وتوفر هذه الهوة تفسيرًا للنسبة العالية لذوي المحدوديات الذين يعانون إعاقة جسدية خطيرة في هذا المجتمع (بن موشه، روفمن وهبر، 2009؛ نؤون، 2009).

·          يعاني العرب الفلسطينيون من ذوي المحدوديات تمييزًا في سوق العمل، فيما نرى أنّ نسبة العاملين من بين هذه المجموعة هي نسبة متدنية جدًا (نؤون، 2009). ويشتغل غالبية العاملين في أطر محمية أو مدعومة، الأمر الذي يحول دون استغلال كامل طاقاتهم البشرية الكامنة.

·         تزيد وضعية النساء العربيات ذوات المحدوديات صعوبة، حيث أنّ التمييز الجندريّ ينضاف أيضًا إلى التمييز على أرضية قومية. وهذا الأمر يزيد من صعوبة اندماجهنّ في سوق العمل وفي الحياة الاجتماعية والأهلية (نؤون، 2009؛ سندلر-لف وشاحك، 2006).

·         يتمتع الأشخاص ذوو المحدوديات في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل بمعدل دراسة متدني، ليس مقارنة بالمعدل السائد في المجتمع العربي الفلسطيني، فقط، بل مقارنة أيضًا بذوي المحدوديات في المجتمع اليهودي (بن موشه، روفمن وهبر، 2009). ويؤدي مستوى دراسة مُتدنٍّ إلى الإقصاء عن سوق العمل، وبالضرورة إلى مستوى اجتصادي مُتدنٍّ، كما يؤدي إلى الوَحدة والاتكالية والتقييم الذاتي المتدني.

 

تشير هذه الأمثلة إلى أنّ المؤسسة لم تقم، بعد، بتذويت واستيعاب واجبها ومسؤوليتها لخلق المساواة في الفرص لذوي المحدوديات في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل. وتشمل هذه المسؤولية الاهتمام باتاحة الخدمات وملاءمتها للمجموعة المستهلكة (للخدمات)، كما تشمل توفير إمكانية استغلال أقصى ما يمكن من هذه الخدمات لدى هذه المجموعة. أضِف إلى ذلك مسؤولية الدولة بتمكين كلّ فرد من استنفاد قدراته وإمكاناته الفردية الكامنة، الذهنية والحسية، بأقصى ما يمكن. وتتأسس هذه الرؤية على حق كل إنسان في أن يكون مواطنًا وشريكًا متساويًا متمتعًا بالتقدير، حتى لو كان يعيش بمعية محدوديات.

 

بالإضافة إلى التمييز النابع من الانتماء القومي، فإنّ ذوي المحدوديات في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل يحيون إقصاءً اجتماعيًا داخليًا (سندلر-لف وشاحك، 2006)، حيث يُنظر إليهم على أنهم أشخاص مساكين وذوي قدرة متدنية، ويراوح التعامل معهم ما بين الشعور بالشفقة والرغبة في العطف عليهم في أفضل الحالات، إلى الإهمال والاستغلال من طرف أبناء عوائلهم والقمع في أسوأ الحالات. كما يُنظر في المجتمع إلى ذوي المحدوديات الناجحين على أنهم شخصيات "فوق-إنسانية" أو أنهم حالات نادرة واستثنائية. الصلة بين التمييز القومي وبين الإقصاء الاجتماعي تُنتج واقعًا يدفع بأغلبية ذوي المحدوديات العرب الفلسطينيين إلى هامش المجتمع. ويؤدي الإقصاء المزدوج إلى خسارة عظيمة، لأنّ جزءًا كبيرًا من مجموعة ذوي المحدوديات لا يستنفد قدراته، الأمر الذي يُقلل من إمكانيات استنفاد الطاقات البشرية الكامنة في المجتمع الذي ينتمون إليه.

 

من هنا، على المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، بمجمل مؤسّساته، أن يجري حسابَ نفس في كلّ ما يخصّ تعامله مع الأشخاص ذوي المحدوديات ومع أوضاعهم. كما أنّ التنظيمات المدينية الفاعلة في المجتمع العربي الفلسطيني لا زالت تتعامل مع المسائل الخاصّة بذوي المحدوديات على أنها أمر غير هام، وهي قائمة خارج الخطاب والعمل اليومييْن. الجهود المبذولة في هذه المسائل قليلة وغير كافية.

 

ورغم أنّ مسؤولية إحلال المساواة واستنفاد حقوق واتاحة الخدمات ملقية على المؤسسة، إلا أنّ عليها أن تكون، أيضًا، جزءًا من التزام ممثلي المجتمع المدني في داخل المجتمع العربي الفلسطيني. فتغيير المواقف السائدة حول ذوي المحدوديات ونقل النقاش حولها من الهامش إلى مركز الخطاب الاجتماعي والسياسي- هي خطوات حيوية. كما أنّ الحاجة المُلحّة لهذا تشكل مطلبًا من هذه التنظيمات بأن تتعامل مع هذه المجموعة على أنها جزء هام من الأجندة العامة وأن تعمل على تحويل المسائل المتعلقة بذوي المحدوديات إلى جزء من الخطاب اليومي الثابت والدائم، وعدم الاكتفاء بالانشغال بها في اليوم الدولي لحقوق الإنسان، فقط.

 

لا يتعلق التغيير المرجوّ بالمستوى البلاغي والإعلاني، فقط؛ يجب المبادرة لنشاط كثيف ومتواصل ومثابر في الوزارات الحكومية المختلفة، من أجل إحداث تغيير في علاقة المؤسسة مع الجمهور العربي الفلسطيني من ذوي المحدوديات، ومن أجل دفع شؤونه وتحسين وضعيته. أضِف إلى ذلك أنّ هناك حاجة لإحداث تغيير مفاهيمي ومجتمعي وقيميّ من أجل خلق مجتمع متساوٍ وعادل ومُيسّر ومنفتح ومتسامح.

 

* مصطفى شلاعطة إعلامي وموجه مجموعات ومستشار تربوي وناشط اجتماعي.

سعاد ذياب ناشطة اجتماعية وحاملة للقب الثاني في التاريخ وفلسفة العلوم والفكر، تعمل في تطوير الخدمات الأهلية لدى مجموعات ذوي المحدوديات في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل.

 

المصادر:

بن موشيه، أ.، روفمن، ل.، وهبر، ي. (2009). ذوو المحدوديات في إسرائيل: المحدودية والاندماج في حياة المجتمع الإسرائيلي- نظرة مقارنة متعددة السنوات. القدس: وزارة القضاء.

 

الأمم المتحدة، (2006). إتفاقيه حقوق الأشخاص ذوي المحدودية. جرى استعادتها بتاريخ 5/12/2009 من موقع الأمم المتحدة:

http://www.un.org/disabilities/documents/convention/convoptprot-e.pdf

 

نؤون، د. (2009). البالغون ذوو المحدوديات في إسرائيل. القدس: معهد بروكدايل.

 

سندلر-لف أ.، وشاحك، ي. (2006). المعاقون في المجتمع العربي في إسرائيل: فرصة للتغيير الاجتماعي. القدس: جوينت إسرائيل.

ملفات متعلقة: