من الهيمنة إلى المشاركة

رمزي سليمان | مجلة عدالة الإلكترونية، العدد 14، حزيران 2005
المواطنة الكاملة لا تستدعي المساواة في الحقوق الفردية فحسب، وإنما في الحقوق الجماعية أيضًا.

 

رمزي سليمان | مجلة عدالة الإلكترونية، العدد 14، حزيران 2005

المواطنة الكاملة لا تستدعي المساواة في الحقوق الفردية فحسب، وإنما في الحقوق الجماعية أيضًا.

 

 

 

 


رمزي سليمان | مجلة عدالة الإلكترونية، العدد 24، حزيران 2005

أودّ أن أستهلّ مقالتي القصيرة هذه بحادثة شخصية يعود تاريخها إلى نحو ثمانية عشر عامًا. في ذلك الحين كنت ألقي محاضرةً في مؤتمر نظّمه المركز اليهودي – العربي في جامعة حيفا. لا أذكر عنوان المحاضرة بالتحديد، لكني أذكر أنّها تناولت قضايا ترتبط بالهُوية الجماعية والحقوق الجماعية للفلسطينيين في إسرائيل.

 

حين انتهيت من إلقاء محاضرتي، وقف رئيس الجامعة في ذلك الوقت، والذي كان بين الحاضرين، وأدلى بتعليقاته. لقد عبّر، بشكل عامّ، عن معارضة صريحة لأيّ "خطاب حول الحقوق"، قائلاً بكلماته: "أنتم العرب الإسرائيليين لا حقوقَ لكم"، و "نحن اليهود لدينا التزامات نحوكم".

 

بودّي الادّعاء بإنّ وجهة النظر هذه ليست فردية، إذ على الرّغم من الحديث الجاري، مؤخَّرًا، حول "الحقوق مقابل الواجبات"، فإنّ وجهة النظر هذه تبقى مميِّزة لكيفية تصوّر معظم اليهود الإسرائيليين لعلاقتهم مع الفلسطينيين في إسرائيل ولتعبيرهم الجليّ عنه. وفي الحقيقة، فإنّ وجهة النظر هذه تبقى في أساس السياسات والممارسات الرسمية المستمدّة من صميم تعريف إسرائيل كدولة يهودية. 

 

يعكس منظور الـ"لا حقوقَ لكم، لدينا التزامات" عقليّة الـ"Noblesse Oblige" (النبل المُلزِم)، ويوفّر هذا المنظور دعمًا أخلاقيًّا ونفسيًّا لأيديولوجية الهيمنة وممارساتها الهادفة إلى الحفاظ على "يهودية الدولة". من السّهل الادّعاء بأنّه على الرّغم من الكمّ غير المتناهي من الحديث المبتذل، الرسميّ والأكاديميّ، حول احتمالات الديمقراطية والمساواة في إسرائيل، فإنّ هذا النمط من العقليّة يبقى نمطًا متجذّرًا في العقلية اليهودية الإسرائيلية. من الواضح أنّ هذه العقلية تناقض جوهر مبدأ المساواة، نظرًا لكونها تقضي بأنّ "الذين يملكون" يستطيعون التصرّف كدكتاتوريين قادرين على كلّ شيء. فهم يستطيعون أن يعطوا متى يشاءون وقدر ما يشاءون، أما المتلقّون فلا خيار أمامهم سوى الإذعان. بديهيٌ أنّه لا يمكن أن تقوم شراكة أو مشاركة حقيقية في إطار علاقة كهذه، وفي الحقيقة فإنّ العلاقات من نمط "النبل المُلزِم" تختزل مبدأ المساواة إلى مجرّد عطاء نابع من نُبل الأخلاق.

 

تجدر الملاحظة إلى أنّ "النبيل" الذي يعطي طواعيةً يجني فوائد مادية ونفسيّة من عطائه الكريم، فهو يكتسب، من ناحية نفسيّة، شعورًا بالاستقامة، وبالتصرّف بنزاهة. وعلى نحو معاكس، فإنّ نفس هذا الشعور بالاستقامة وبالتصرّف بنزاهة يسخّر لتسويغ ممارساته العقابيّة في حال قيام المتلقّي بتحدّي معادلة الهيمنة.

 

إن التأرجح بين المكافأة والعقاب (الجزرة أو العصا) هو ما يميّز سياسة السيطرة التي تؤيّدها، مفارقة، الأحزاب اليهودية اليسارية أكثر ممّا تؤيدها الأحزاب اليمينية. ولا يتمّ، ضمن إطار هذه السياسة، اختزال الإجراءات الموجّهة نحو تقليص التمييز وعدم المساواة إلى شكل ما من أشكال العطاء النبيل فحسب، وإنّما يتمّ توظيف تلك الأعمال الخيّرة كأدوات للتسلط والسيطرة، أيضًا.   

إنّ المحافظة على الهيمنة المطلقة من جانب الأكثرية اليهودية وتعزيزها هو أمر يناقض مبادئ العدل الإجرائيّ ومشاركة السلطة. وفي أحسن الأحوال، فإنّ أقصى ما تستطيعه الإجراءات الموجّهة للمساواة ولـ"تقليص الفجوات" من النمط الخيّر، حين لا يتمّ استخدامها بصورة مراوغة كوسائل للسيطرة، هو أن تعود بما هو أقلّ من المقبول على أفراد مجموعة الأقليّة.

من منظور شموليّ، يقوّض هدف المحافظة على "يهودية الدولة"، والذي تدعمه عقليّة التفوّق، أيّ إمكانية لدمج الأقليّة الفلسطينية في إسرائيل. وعلى الغالب، فقد كان للأكثرية اليهودية دور فاعل، من خلال العديد من السياسات، القوانين والإجراءات الرسميّة والشعبية، في عرقلة أيّ عمل منظَّم تقوم به الأقلية لهدف تحقيق الحقوق الجماعية والمواطنة المتساوية لأفرادها.

 

لقد حاججتُ في مكان آخر بأنّ المواطنة المبتورة وغير المتساوية الممنوحة للمواطنين الفلسطينيين، إلى جانب ممارسات الهيمنة الموجّهة ضدّهم، قد دفعت بهم، بشكلٍ متواصلٍ، نحو وضعيّة من "الهامشية - المزدوجة". لا تعني هذه الوضعيّة أنّهم هامشيون كمواطنين فحسب، وإنّما تعني، أيضًا، أنّه يتمّ تغريبهم عن ثقافتهم وهويّتهم.

 

من الواضح أنّ علاقة الهيمنة، أو علاقة "السيّد - العبد"، هي علاقة بين طرفين. لا يمكن لـ"السيّد" أنّ يمارس سلطته المطلقة إلا إذا سلّم "العبد" بموقعه. كذلك ، فإنّه غالبًا ما يكون رفض عرض مذلٍّ بمثابة أمر نفعيّ، ناهيك عن كونه أكثر كرامة. وفي ما يتعلّق بالأقلية الفلسطينية، فإنّه في ظلّ غياب إستراتيجية جماعية متفق عليها، فإنك دائمًا ما تجد ممثِّلين "شرعيّين" عن هذه المجموعة، ممن هم على استعداد للمّ الفتات. وما لا يقلّ ضررًا عن ذلك هو الدور الفاعل الذي تؤدّيه الدولة، والتي لا تدع فرصةً تفوتها لفرض تأثيرها على اختيار مندوبي الأقليّة، من الذين ذوّتوا علاقة "السيد - العبد"، والذين هم على استعداد للتحدّث بصوت سيّدهم.  

نشهد، مؤخّرًا، وعيًا متزايدًا لدى مفكّرين وناشطين اجتماعيين فلسطينيين في إسرائيل، بضرورة تحدّي الوضع القائم. إنّ الادّعاء الأساسي، المصاغ بكلمات وأساليب مختلفة، هو أنّه يتوجب استبدال النموذج المُتسم بهيمنة مجموعة معيّنة، بصيغة علاقة أخرى ذات وجهة متّسمة بالمساواة، تضمن مواطنة كاملة وشاملة للجميع. وتتمّ المحاججة بأنّ المواطنة الكاملة لا تستدعي المساواة في الحقوق الفردية فحسب، وإنما في الحقوق الجماعية أيضًا، بما في ذلك حقّ كلّ مجموعة في تنمية هويتها وثقافتها المتميزتين.

تصبح الحاجة إلى التكلّم بصوت واضح في هذه القضيّة الحاسمة أكثر إلحاحًا، في ضوء الجهود الأخيرة الداعية الى وضع ختم دستوريّ على النموذج غير الأخلاقي، والذي عفا عليه الزمن، لهيمنة وسيطرة شعب على شعب آخر.

 

 



* بروفيسور سليمان هو رئيس قسم علم النفس في جامعة حيفا وباحث في مدى الكرمل.

ملفات متعلقة: