مقصيّات رغمًا عنهنّ: النساء العربيّات البدويّات وظاهرة تعدّد الزوجات في النقب

راوية أبو ربيعة | مجلة عدالة الالكترونية، العدد 55، كانون الأول 2008
كيف نحاجج قضيّة هي، في آن واحد، قضائية، اجتماعية، ثقافية وسياسية، وترتبط بالنساء البدويات في النقب؟


راوية أبو ربيعة | مجلة عدالة الالكترونية، العدد 55، كانون الأول 2008 


إنّ كتابة مقالة تحاجج مسألة قضائية تظلّ أسهل من مقالة تحلّل ظاهرة متعدّدة المجالات. ففي المسألة القضائية يكون واضحًا، على الأغلب، ما هو الشأن العالق، أيّ القوانين انتُهك، أيّ حقّ تضرّر، وما هي طرق العمل لإصلاح الغبن. ميدان العمل هو الميدان القضائي، الأدوات هي أدوات قضائية واللغة هي لغة قضائية.

 

وبناءً عليه، فكيف نحاجج قضيّة هي، في آن واحد، قضائية، اجتماعية، ثقافية وسياسية، وترتبط بالنساء العربيات البدويات في النقب؟

 

لو تمحورنا في المشكلة نفسها، فكيف نواجه ظاهرة تعدّد الزوجات في النقب؟ وهي ظاهرة آخذة بالتسارع وتصل نسبتها إلى 30%. هل من الصحيح العمل في الميدان القضائي، أم في ذلك الاجتماعي – الجماهيري؟ هل يجب أن يكون الخطاب حول الظاهرة داخليًا في المجتمع، أم أنّ للدولة ومؤسّساتها مسؤولية عن نشوئها وتطوّرها؟ كيف نكسر مؤامرة الصمت حول ظاهرة تعدّد الزوجات؟ ما هي الآليات التي تكرّس هذه الظاهرة ومَن يملك المصلحة في تكريسها؟

 

حين نخوض في ظاهرة تعدّد الزوجات علينا أن نأخذ في الاعتبار السياق الواسع الذي تحدث فيه. علينا تحليل العوامل التي تؤدّي إلى قمع النساء العربيات البدويات في النقب، وفحص آليّات الصمت والاستضعاف التي تكرّس غيابهنّ وجعلهنّ لامرئيّات.

 

إنّ العوامل المؤسّسية والداخلية الاجتماعية التي تقوّي هذه الظاهرة تمنحها شرعية تحت غطاء "الحساسية الاجتماعية"، افتراضًا، أو أنّها تعتمد على "الترخيص الديني" المُعطى لها، افتراضًا، هي عوامل تشكّل جزءًا من الجدل.

 

إنّ تعدّد الزوجات في المجتمع العربي البدوي في النقب ليس ظاهرة تجري في فراغ. بل إنّها جزء من العوارض التي تميّز واقع حياة النساء العربيات البدويات في النقب. وهو واقع من الاستضعاف والإقصاء المستمرّين، تصارع فيه النساء البدويات العربيات على موقعهنّ في مجتمع قبليّ أبويّ، يرفض التنازل عن التفوّق الاجتماعي الممنوح للرجال. وتقوّي المؤسّسة الإسرائيلية هذا الواقع عبر آليّات سيطرة بصيغة "فرّق تسد". فهي تقوّي القيادة القبليّة لأجل المحافظة على "هدوء صناعيّ" في النقب، بينما تدفع النساء العربيات البدويّات ثمن ذلك. 

إنّ المنتظر من أولئك النساء هو القبول بالظاهرة وكأنّما هي جزء لا يتجزّأ من حياتهنّ، حيث يُطالبن بالتعاون مع آليّات القمع والإقصاء. فالظاهرة تُرزم بتأويلات دينية من اتجاهات مختلفة، ما يصعب إجراء جدال عقلاني وواعٍ حول الظاهرة. وهكذا يُمنح تحليل لظاهرة مدمّرة، تفتّت حجارة المعيارية الأخلاقيّة الاجتماعية الأساسية باسم "الترخيص الدينيّ"، افتراضًا.

 

تبيّن في البحث[1] الذي أجري لدى عائلات متعدّدة الزوجات، أنّ النساء في عائلات كهذه يعانين من تقدير ذاتي منخفض، اكتئاب، هلع، عدائية، أداء عائلي إشكالي واكتفاء منخفض من حياة العائلة. ويتّضح أنّ النساء وأطفاهن هم المتضرّرون الأساسيّون من هذه الظاهرة.

 

إنّ الواقع الاجتماعي الذي تعيش فيه النساء العربيّات البدويّات في النقب يُصعّب عليهنّ العمل للقضاء على الظاهرة؛ فما يزيد عن 90%[2] من النساء العربيات محرومات من العمل، وأكثر من 60%[3] من الفتيات العربيات البدويات اللاتي يعشن في القرى غير المعترف بها[4] يتسرّبنَ من المدارس. وفوق ذلك، لا تميّز الظاهرة قطاعًا معينًا بين السكان البدو العرب، فجميع طبقات وأقسام المجتمع موبوءة بتعدّد الزوجات، حيث لا تؤثّر مقاييس مثل مستوى التعليم والوضع الاجتماعي-الاقتصادي على انتشارها.

إنّ النساء اللاتي يجرؤنَ على الخروج ضد الظاهرة يبقينَ وحيدات. غالبًا ما يدور الحديث حول نساء مزوّدات بأدوات مثل الوعي والغطاء العائلي، وهي أدوات تسمح لهنّ بتحدّي المعايير الاجتماعية والواقع القائم.

 

إنّ تعدّد الزوجات، في نظري، هو ظاهرة تعكس الضائقة العميقة التي يعيش فيها المجتمع العربي البدوي اليوم. فهي تعكس أزمة هوية جماعية، منبعها، برأيي، هو انتقال العرب البدو الحادّ والقسريّ إلى البلدات الثابتة الفقيرة، إلى واقع قوامُه العيش في سقائف من صفيح، هدم بيوت، وضع اجتماعي-اقتصادي متهالك وغياب الأمل. الفرق بين انتشار الظاهرة قبل تدخّل الدولة في أنماط حياة البدو، وبعده ظاهر وبارز. في الماضي، تزوّج أفراد فقط من الرجال العرب البدو أكثر من امرأة. وكانت الظاهرة منتشرة غالبًا بين المشايخ وأصحاب الأموال.

 

أمّا اليوم، فالظاهرة قائمة في عائلات كثيرة جدًا، حيث يبدو أنّ المجتمع العربي البدوي يمرّ تراجعًا متطرفًا يزيد من شدّة الأنماط الأبوية المعهودة فيه، كردّة فعل رجعية على تعامل الدولة الإقصائي معه. فالبون الشاسع بين أنماط الحياة التقليدية وبين الواقع الحديث، الذي يعيشه العرب البدو يوميًا، يخلق فوضى عارمة في المجتمع العربي البدوي. أحد تجليات ذلك هو ازدياد انتشار تعدّد الزوجات. ويشكّل هذا الواقع تربةً خصبة لنموّ حركات دينيّة تملأ الفراغ الناشئ في مشاعر الانتماء، في الهويّة المشروخة وفي مجال القيادة. فدخول متديّنين وحركات إسلامية يوفّر بوتقة دينيّة للتراجع التقليدي. ولا يقوم رجال الدين بالدور المتوقّع منهم إذ يحجمون عن اتخاذ موقف واضح بخصوص التفسير الديني لظاهرة تعدّد الزوجات. وهكذا، تحوّل تعدّد الزوجات من الاستثناء إلى القاعدة.

إلى كلّ ما ذُكر، ينضاف عامل حاسم. أقصد صمت الأجهزة المختلفة التي يفترض بها توفير حماية للنساء البدويات العربيات في النقب: الجهاز القضائي الجنائي، الجهاز الشرعي والقيادة الفلسطينية في إسرائيل، التي تملأ فمها بالماء في إزاء استفحال الظاهرة.

 

الجهاز الجنائي

يحظر البند 176 من قانون العقوبات[5] تعدّد النساء ويحدّد عقوبة بالسجن على هذه المخالفة. لكنّ الدولة لا تفرض تطبيق القانون لدى السكان العرب البدو، وتغطّي هذه الظاهرة بغطاء قوامُه "الحساسيّة الثقافية". هذا السلوك يزيد من حدّة الازدواجيّة الأخلاقية التي تعتمدها الدولة تجاه مواطنيها الفلسطينيين.

فسياسة التمييز والإقصاء المتواصلة المعتمدة تجاه الفلسطينيين في إسرائيل لا تعترف بمفهوم "الحساسيّة الثقافيّة". مثلاً، حين تقرّر الدولة هدم بيوت في القرى غير المعترف بها في النقب، لا تبدي "حساسية ثقافية" لكون العرب البدو جزءًا من سكّان أصلانيين، ذوي حقوق تاريخيّة على الأرض.

 

يُطرح تعدّد الزوجات على الأجندة العامة في إسرائيل ضمن سياق "التوازن الديموغرافي". في هذا السياق، يُنظر للنساء العربيات البدويات على أنّهن "رحم" يجلب للعالم أطفالاً عربًا "يهدّدون" طابع الدولة اليهودي، وليس كصاحبات حقوق يستحققْنَ حماية القانون المتساوية. كذلك، إنّ تدخّل الدولة في مسألة تعدّد الزوجات من شأنها ضرب العلاقات التي أنشأتها مع الزعامة القبليّة على امتداد عشرات السنين، بغية تقوية آليّات الفصل والسيطرة الخاصة بها في المجتمع العربي البدوي في النقب. فهي تفضّل عدم المساس بعلاقاتها مع القيادة القبلية، حتى لو كان معنى ذلك إضعاف النساء العربيّات البدويات في النقب ودوس حقوقهنّ.

الجهاز الشرعي   

يملك الجهاز الشرعي صلاحية مقاضاة متميّزة في كلّ ما يتعلّق بالزواج والطلاق لدى المسلمين، وهو يسمح بتعدّد الزوجات. في مقارنة أجريت في السنوات 2000-2004 بخصوص تراخيص الزواج التي منحتها المحكمة الشرعية في بئر السبع، مقابل محاكم شرعية أخرى، تبيّن أنّ نسبة تراخيص الزواج تصل هناك إلى 66.6%؛ بينما كانت النسبة في مدن أخرى في إسرائيل تقلّ عنها بشكل واضح: يافا 7.5%، عكا 3.6%، الطيبة 2.8% وحيفا 19.6%[6]. معنى ذلك أنّه في غالبية الحالات تُعطى في المحكمة الشرعية في بئر السبع تراخيص زواج متعدّد الزوجات. فخلافًا لذلك، كان يمكن للزواج أن يجري برقابة من مأذون رسميّ، من خلال توثيق تامّ لعقد الزواج، ومن دون الاحتياج إلى مصادقة المحكمة.

 

أخيرًا، يمكن الاستنتاج أنّ الصمت المدوّي لدى القيادة الفلسطينية في إسرائيل هو ناقوس خطر بشأن الشكل الذي نتعاطى فيه مع ظواهر داخليّة في المجتمع، وخصوصًا ظواهر ترتبط بدوس حقوق النساء.غياب صوت القادة العرب عن ميدان تعدّد الزوجات هو جزء من مؤامرة صمت متواصلة بخصوص قتل نساء على خلفيّة ما يسمّى "شرف العائلة"، العنف في العائلة، القبلية الآخذة بالتعزّز في المجتمع العربي، وبخصوص الإقصاء المستمرّ للنساء من الحيّز العام ومن التمثيل السياسي.

 

إنّ النضال الداخليّ الاجتماعي هو جزء لا يتجزّأ من نضالنا كأقليّة قومية. لا يمكن إجراء خطاب حقوق من دون معالجة المشاكل الداخليّة الاجتماعية الملتهبة. نحن النساء البدويات جزء من المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، وبهذا فنحن نطالب بأخذ موقع كشريكات متساويات على جميع المستويات والمجالات المتعلّقة بالمجتمع الفلسطيني في إسرائيل. المشاكل ملتهبة ولا يمكننا السماح لأنفسنا بالانتظار حتى تجد جميع المسائل الوطنية حلاً لها. نحن جزء من الحلّ وليس جزءًا من المشكلة.

 

إنّ حسم السؤال بشأن أكثر الميادين ملائمة لمحاربة تعدّد الزوجات لم يتمّ بعد. علينا إجراء نقاش داخلي اجتماعي جريء، تشارك فيه ممثّلات عن النساء الفلسطينيات في إسرائيل، أكاديميون، رجال دين، ناشطون سياسيون ومنظّمات اجتماعية وقضائية فاعلة في المجتمع. الحلّ متعدّد البُنى ولا يمكن اختزاله في فرض التطبيق أو العقاب.

 



[1] Al-Krenawi, A .& Slonim-Nevo, V.(2008). The Psychological Profile of Bedouin Arab Women Living in Polygamous and Monogamous Marriages. Families in Society: The Journal of Contemporary Social Services, pp. 139-149.

 معًا – اتحاد الجمعيات النسائية العربية في النقب، 2005. المرأة العربية في النقب: واقع وتحدّ.[2]

[3] סראב, אבו רביעה-קוידר. 2004. נשירת נערות מהחינוך הבדווי בנגב: הדרה, אפליה ואחרות, המרכז לחקר החברה הערבית בישראל, מכון ון ליר בירושלים.

 يوجد في النقب نحو 45 قرية لا تعترف بها دولة إسرائيل، وهي تفتقر إلى الخدمات الأساسية: ماء، كهرباء، خدمات صحية وتعليم.[4]

 قانون العقوبات -1977.[5]

تغريد جهشان،"النساء البدويات وحقوق الأحوال الشخصية"، المرأة العربية في النقب: واقع وتحدّ (2005)[6]

ملفات متعلقة: