حقّ النساء العربيات البدويّات في السّكن والمسكن الملائم

سوسن زهر | مجلة عدالة الألكترونية، العدد 23، آذار 2006
أماكن العمل التي ظلّت متاحة أمام النساء هي وظائف "نسائيّة"، تبقي لهن متّسعًا من الوقت للقيام بمهام العناية بالبيت

 

سوسن زهر | مجلة عدالة الألكترونية، العدد 23، آذار 2006

 

 

"Our house is not simply a place where we go to sleep at night, but it represents our home, which means everything to our lives".[1]

 

سأتناول في هذا المقال مسألة انتهاك حقّ النّساء العربيات البدويّات اللاتي يسكنّ النقب في السكن والمسكن الملائم. ولغرض مناقشة هذه المسألة، سأستعرض باقتضاب سياسة الحكومة المتعلّقة بتخطيط الحيّز في النقب وكذلك سياسة تصميم البيوت التي تسكن فيها النساء البدويّات. فوفقًا لهذه السياسة في هذين المجالين، سأتناول بالتحليل وضعية انتهاك الحق الأساسي للنساء البدويات بالنقب في السكن والمسكن الملائم. وفي النهاية، سأستعرض باقتضاب العلاقة ما بين موجة هدم البيوت في النقب وبين استفحال ظاهرة العنف ضدّ النساء كانتهاك فظّ لا يقتصر على حقّهنّ في سقف يؤويهنّ فحسب، وإنّما كانتهاك لحقّ هؤلاء النساء اللواتي هُدمت بيوتهنّ في أن يَنعمنَ بالسّلام، الأمن والكرامة.     

 

غياب المشاركة في إجراءات تخطيط الحيّزات الجماهيرية والخاصة

خلال سبعينيات وثمانينيّات القرن المنصرم وبعد انتهاء الحكم العسكري الذي فُرض على القرى والمدن العربية في إسرائيل، أقامت الحكومة في النقب سبع قرى معترف بها، بهدف إسكان البدو الذين بقوا في منطقة النقب بعد إقامة الدولة. وانتقل جزء منهم للسكن في هذه البلدات، التي أقامتها الدولة ومنحتها اعترافًا، بينما بقي الجزء الآخر في البلدات التي لم يتم الاعتراف بها بعد، والمعروفة بـ "القرى غير المعترف بها". لقد جرت إقامة القرى المعترف بها من خلال تخصيص الحد الأدنى من الموارد والأرض لغرض إسكانهم، كجزء من نزعة تهويد النقب عبر تجاهل مطبق لنمط الحياة المتبع لدى البدو ولاحتياجاتهم[2]. وكان هناك من ادعى أن الدولة تتبع سياسة تقليص "مواقع إسكان البدو الى الحد الأدنى الممكن من أجل إحكام السيطرة السياسية عليهم ومن أجل تقليص تكلفة البنى التحتية المادية والاجتماعية في مواقع الإسكان"[3]. بالإضافة الى ذلك، تتميّز هذه السياسة بتقليص مشاركة البدو في إجراءات التخطيط نفسها. وجاءت إقامة "مديرية تطوير البدو"، في إطار مديرية أراضي إسرائيل،[4] المسؤولة عن إنشاء أحياء جديدة في البلدات المعترف بها وإقامة بلدات جديدة، لتُستغل كوسيلة للسيطرة على إجراءات التخطيط. فكلّ الميزانيات الحكومية المخصّصة للبدو تُحوَّل بواسطة المديرية، وليس إليهم مباشرة[5].

 

تصف د. طوبي فنستر سياسة التخطيط هذه بأنها سياسة اتّجاهها "من الأعلى إلى الأسفل"، وهدفها السيطرة على الحيّز، تصميمه وتقسيمه بدون مشاركة السكّان، بمن في ذلك النساء بينهم، بواسطة إجراءات التخطيط. حسب رأيها، يعتبر التخطيط في النقب وسيلة للسيطرة على حيّز الأقلية العربية وتصميم الحيّز الجغرافي وتوزيعه لصالح الأغلبية اليهودية. فلا يعكس التخطيط نمط حياة البدو وهو يتجاهل احتياجاتهم الاجتماعية، الاقتصادية والحيّزية، بما في ذلك احتياجاتهم الثقافية. والنتيجة المترتبة على ذلك هي حيّز تنعدم فيه المساواة، ومقسّم وفقًا للانتماء الإثني، الطبقي والجندري[6]. وتضيف فنستر أن عدم التطرّق الى الفروقات الثقافية بين المجموعات الإثنية المختلفة وتجاهلها، يساهم في الطغيان القصوي على حياة النساء وإقصائهن من الحيّز العام وإعادتهن الى الحيّز الخاص المحدود. فمثلاً، سكنت القبائل البدوية، تاريخيًا وتقليديًا، الواحدة بمعزل عن الأخرى، والغاية من ذلك، ضمن أشياء أخرى، منع اللقاء بين نساء القبيلة والرّجال الأغراب. أمّا تخطيط القرى الجديدة وتركيز القبائل المختلفة في حيّز محدود واحد (البلدات المدينية)، فقد أدّيا الى حشر النساء في الحيّز الخاص داخل بيوتهنّ، بغرض ضمان منع تلك اللقاءات[7].

 

بالإضافة إلى الإقصاء نحو الحيّز الخاص، يجري تقييد الحقوق الأخرى للنساء بفعل غياب بنى تحتية كافية للخدمات الحيوية مثل: التعليم، الرفاه، الماء، الكهرباء، المواصلات العامة وغيرها. وهكذا فإن البدو الذين انتقلوا للعيش في القرى المعترف بها التي أقامتها الدولة يعيشون في فقاعة سياسية-اقتصادية، حيث أنهم من جهة يفتقرون الى الخدمات الحيوية والأساسية، ومن جهة أخرى، هم مغيّبون عن خطط التخطيط والتطوير الحكومية. أما هؤلاء الذين بقوا في القرى غير المعترف بها فإنّهم يعيشون في فقاعة قانونية-سياسية[8]، حيث يُحظر عليهم إقامة بيوت دائمة، ويُمنع عنهم الحقّ الأساس في تسجيل مكان سكناهم في بطاقة الهويّة؛ ليست لديهم سلطة محلية خاصة بهم ويُحظر عليهم الانتخاب والترشُّح للانتخابات؛ ويُمنعون من تلقّي خدمات الرفاه الأساسيّة، والأهم في سياقنا: يحظر عليهم ممارسة الحقّ الأساسي في الملكية المتمثّل باقتناء مسكن وبيعه[9].

 

ليس ثمّة دور للنساء البدويات، أيضًا، في تخطيط الحيّز الخاص- البيت. فقد كان لانتهاء الحكم العسكري في إسرائيل عام 1966 تأثير على أنماط حياة البدو في النقب، وبدأ التغيير بعد الانتقال من السّكن في الخيام المصنوعة من السّجاجيد التي حيكت من شعر الماعز، إلى بيوت مصنوعة من الزنك. فقد كانت "بيوت الشعر" مؤلّفة من أقسام رئيسيّة، تمّ عبرها تقسيم الحيّز داخل البيت بين جزء خُصّص للرجال وآخر، منفصل، خُصّص للنساء. إذ اعتادت المرأة في الماضي بناء بيتها المصنوع من الشّعر وتصميمه وصيانته. لا بل إنها اعتادت حتى على القيام بكلّ الأعمال المرتبطة بالاقتصاد البيتي من دون مساعدة الرجل. لكن، مع الانتقال إلى بيوت الزّنك، انتقلت صلاحية بناء البيوت، تصميمها وصيانتها من المرأة إلى الرجل. في هذا المستوى، أيضًا، كان لغياب البنى التحتية الحيوية كالمواصلات العامة، الماء، الكهرباء، مؤسّسات التعليم وأماكن العمل، تأثير على سيطرة المرأة على الحيّز الخاصّ المحيط ببيتها[10].

 

"حاجة" أم "حق"؟

السؤال المرتبط بموضوعنا في ضوء المذكور أعلاه هو: هل تمّ إقرار مفهوم السّكن والمسكن الملائم للنساء عامة، وللنساء البدويات خاصة، وفقًا لحاجة النساء لذلك أم تبعًا لحقّهن في المسكن، أي أنّ السؤال هو حول ما إذا كان الخطاب هو خطاب "الحاجة" (need) أم "الحقوق الوضعيّة" (positive rights

 

جرى تعريف المسكن الملائم للنساء، حتى اليوم، كحاجة وليس كحق[11]. وتؤكّد فنستر جانب "الحاجة" لدى النساء وتؤكّد أنه يجب، في تخطيط الحيّزين العام والخاص، أخذ احتياجات النساء البدويات بالاعتبار وليس تجاهلها. حسب رأيها، إن التوطّن العفوي للبدو ثبت كوسيلة أكثر نجاحًا من مشاريع التخطيط المديني، لأنه يلبي الاحتياجات الثقافية والاجتماعية للمتوطنين مقابل التوطين المديني الذي يجبي ثمنًا اجتماعيًا وثقافيًا باهظًا[12]. وتقدّم فنستر عددًا من الأمثلة على المسّ باحتياجات النساء في أعقاب الانتقال الى الاستيطان المديني. فمثلاً: البيوت الجديدة في الاستيطان المديني مبنيّة بمدخل واحد فقط، من دون مدخل خلفيّ أو إضافيّ يتيح للنساء حريّة التحرّك داخل البيت أو خارجه، في حال بات الحيّز الخاص "محظورًا" عليهنّ بفعل وجود رجال أغراب فيه[13].

 

بالإضافة الى ذلك، فإنّ التطوّرات التخطيطية التي حدثت في العقود الأخيرة قد أثرت على مصادر دخل البدو. وتجسّد هذا التطوّر في الانتقال من الزراعة ورعاية الماشية الى العمل في البناء، الخدمات العامة والصناعة[14]. أمّا أماكن العمل التي ظلّت متاحة أمام النساء فهي وظائف "نسائيّة"، تبقي لهن متّسعًا من الوقت للقيام بالمهمّات الأساسيّة المتمثلة بالعناية بالبيت، الزوج والأطفال[15]. وكذلك، فإن تغيير أماكن العمل أثر بدوره على نسبة النساء العاملات وأدّى الى إقصاء النساء وإعادتهن الى نطاق البيت المقلّص[16].

 

لا خلاف على أن البيت هو مصدر قمع المرأة. التمييز بين المجال الخاص، المخصّص وفقا للتعريف المقبول للنساء، وبين المجال العام، المخصّص للرجال، يكرّس تقسيمة الوظائف بين الجنسين في المجتمع، وبحسبها فإنّ مكان المرأة هو البيت ومكان الرّجل خارجه. وعلى الرّغم من هذا، ففي حالات معيّنة، كحالة المرأة البدوية، فإن "البيت" هو المكان الوحيد الذي تكون النساء قادرات على العيش فيه. البيت هو مكان رعاية الأطفال، وهو يشكّل ملجأ من الشارع وفي أحيان متقاربة يشكّل، أيضًا، مصدرًا لإنتاج الدّخل[17]. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ البيت يشكّل مصدرًا للعلاقات الاجتماعيّة بين الرجال والنساء، وبين النساء أنفسهنّ. وتجد احتياجات النساء في هذه الحالة تجسيدًا عمليًا أكثر من تلك التي لدى الرجال، لأنّ تعريف احتياجات النساء هو نتاج لوجودهن في بيتهنّ، وهو يتطوّر كردّ فعل على ظروف الحياة التي يشهدنها ويعشنها يوميًا. مثلا: الحاجة في مياه نقيّة جارية، توفّر الغذاء، البنى التحتية أو روضات الطفولة المبكرة[18].

 

تشير فنستر، أيضًا، في بحثها الى أنّ ذلك المجال الخاص، الذي يكرّس قمع المرأة البدوية، هو المجال "المُتاح" لها ولأجلها. تجري فنستر مقارنة بين ثنائية المجال "الخاص" والمجال "العام" وبين ثنائية مفاهيم "الممنوع" و "المسموح"، وتدّعي أن المعايير الثقافية في المجتمع البدوي تميّز بين الحيّز المسموح، وهو البيت، حيث يمكن أن يكون فيه حضور للمرأة والتجول فيه، في مقابل الحيّز الممنوع، الذي يُمنع فيه على المرأة من أن تكون حاضرة. وهي تؤكد ديناميكية المكان "المسموح"، الذي قد يتحوّل أحيانًا، بتغيُّر الظروف، الى "ممنوع"، مثلاً بحضور رجال أغراب. وهكذا، فإن الحيّز المخصّص لوجود النساء قد يتراوح بين قطبي الممنوع والمسموح[19].

 

مقابل التوجّه الذي يؤيّد تعريف الحاجة لدى النساء في تحديد شروط المسكن الملائم، هناك توجهات أخرى. فمثلا، تدّعي كارولين موزر بأنه يجب التمييز بين الحاجة الفعلية لدى النساء، وهي نتاج للقمع داخل البيت، وبين الحاجة في استراتيجية لتغيير اجتماعي، تُلزم تغييرًا لتركيبة المجتمع وطبيعة العلاقات بين الجنسين. وعليه فيمكن، حسب ادعائها، أن تشمل احتياجات النساء الحاجة في القضاء على تقسيمة الوظائف بين الجنسين، أو في تغيير عبء المسؤولية عن اقتصاد البيت وتربية الأطفال[20]. 

 

إنّ توجّه خطاب حقوق الإنسان، أيضًا، معرّض للنقد من اتّجاهات مختلفة. معارضو هذا التوجّه يدّعون أنه بحكم كونه توجّهًا ليبراليًا، فإنّ توجّه الحقوق جاء ليحدد هوية صاحب الحق المعيّن، المرأة  أو الرجل، مرأة معيّنة دون غيرها، وهكذا. وفقًا لذلك، فإن هذا التوجّه يشكّل خطرًا على هذه المجموعة أو تلك، ويخرجها من دائرة مستحقي هذا الحق أو يقيّد استحقاقها[21]. ويدّعي آخرون أن توجّه الحقوق بحدّ ذاته يميّز من ناحية جندرية بفعل "التنافس" بين الحقوق المختلفة[22]. مثلاً، توجد في المجتمع البدوي بنية تراتبيّة للحقوق ولأصحاب الحقوق، وبحسبها فإن الحقوق المعطاة للرجال غير معطاة للنساء أو للمموضعين في موقع منخفض داخل تلك التراتبية. من وجهة نظر نسويّة، فإن منح الحقوق لا يساهم بالضرورة في دفع مكانة النساء. هذا الادّعاء صحيح بالذات حين يكون عدد من الحقوق المتنافسة، مثل، حق النساء والأطفال في ألا يكونوا هدفًا للعنف كجزء من حقهم في شروط تقسمة سكنية حيّزية لائقة ومحمية، مقابل حق الرجل في بيته أو حقه في حياة أسرية خاصة به[23].

 

في اعتقادي، يجب الدمج ما بين خطاب "الحاجة" وبين خطاب "الحقوق"، من خلال منح النساء الحق في السكن وفي المسكن الملائم وأخذ احتياجاتهن بالاعتبار حين يتمّ تحديد شروط المسكن الملائم. بالإضافة الى ذلك، فإن لغة "الحقوق" في السكن والمسكن الملائم تعزّز أهميّة "الحاجة" وتوفّر لها غطاء في أوامر قانونية واضحة وسلسة. فمن شأن أوامر كهذه أن تصعّب على مؤسسات الحكم التنصّل من و/أو إهمال الحق المُعطى وفق القانون[24]. يجب دعم التوجّه الذي تملك النساء بحسبه الحق في المسكن الملائم الخاص بهنّ وبظروفه اللائقة كحقّ اجتماعي-اقتصادي، تقدّمي ووضعيّ. وتزداد أهمية الحاجة في حماية حق النساء في السكن والمسكن الملائم في ضوء حقيقة أن المزيد والمزيد من النساء، كالنساء البدويات، يبقين في بيوتهن، في الحيّز المعرّف كـ "مسموح" من ناحيتهنّ، حيث يضطررن إلى قضاء معظم ساعات النهار، وأحيانًا معظم أيّام حياتهن، فيه[25].

 

إنّ أهميّة الدمج بين خطاب "الحاجة" وخطاب "الحقوق" تتعزّز في ضوء تعريف الحق في السكن والسكن الملائم في القانون الدولي. ويجد هذا الحق تعبيرًا جليًا له في الميثاق الدولي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، الذي ينص في البند 11(1) على أن لكل إنسان الحق في السكن له ولعائلته، بما في ذلك الحقّ في المأكل، الملبس والسكن والحق في استمرارية تحسين الظروف المعيشية. ويضيف هذا البند أنّ الحق في السكن هو جزء من حق أوسع – وهو الحق في مستوى معيشة لائق وملائم. حتى أن لجنة الأمم المتحدة حددت أن الحق في المسكن الملائم يُفترض أن يمنح كل إنسان مكانًا للسكن بسلام وأمن وكرامة (peace, security and dignity) وهو يشمل مركّبات أساسية مثل الاستقرار في مكان السكن، إمكانية الوصول للخدمات، المواد والمنشآت، البنى التحتية، الملاءمة مع عادات المكان والثقافة، والموقع اللائق[26]. إذًا، النتيجة هي أن تعريف الحق في السكن والمسكن الملائم يشمل الاعتراف بالحقّ الأساسي والوضعي في السكن والمسكن الملائم، وكذلك، أخذ جانب الحاجة لدى صاحب الحق بالاعتبار.

 

على الرّغم من أنّه لم يتمّ الاعتراف، في إسرائيل أيضًا، بالحقّ في السكن وفي المسكن الملائم كحقّ أساسيّ في قوانين الأساس[27]، إلا أنه قد عُرّف كحق "مختلط"، يحمل في طيّاته جانبًا اجتماعيًا وجانبًا مدنيًا، ومُعترف به كجزء من الحق الأساس لكرامة الإنسان المنصوص عليها في قانون أساس: كرامة الإنسان وحرّيته، 1992[28]. لقد جرى في المحكمة العليا، مؤخّرًا، بحث قضية الحق في الحد الأدنى من العيش بكرامة ومكانته كحقّ أساس في النظام القضائي الإسرائيلي[29]. وقد أكّد رئيس المحكمة القاضي أهرون براك في قرار الحكم أنّ "الحقّ بكرامة الإنسان، بمعناه الجوهري، يشكّل منظومة من الحقوق المطلوب المحافظة عليها بغرض إحقاق الكرامة". وأضاف براك أن هذه الحقوق من شأنها أن تُضمّن كحقوق "مدنية" أو كحقوق "اجتماعية" تشمل حق الإنسان في ظروف حياة تسمح بالعيش الذي يمكنه فيه أن يمارس حرّيته كإنسان. ولم يتمّ، هنا أيضًا، تناوُل مسألة الحقّ في السكن والمسكن الملائم كحقّ أساسي بحدّ ذاته، ولكن يمكن أن نستخلص من تعريف الحقّ في القانون الدولي، تعريفه في القانون الإسرائيلي بوصفه يشمل الحقّ في الحد الأدنى من العيش الإنساني الكريم. وقد صادقت المحكمة، في هذه المسألة، وحددت أن الحق في الحد الأدنى من العيش بكرامة هو بالفعل جزء من حق كرامة الإنسان المنصوص عليه في قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته، وأن "الحق الدستوري في العيش بكرامة هو الحق في أن يُضمَن للإنسان حدًا أدنى من الوسائل المادية، التي تسمح له بتحصيل المعيشة في المجتمع الذي يحيا فيه"[30].

 

ختامًا، وبما أن هذا المقال يُنشر في المجلة الإلكترونية لمركز عدالة في شهر آذار، الذي يُصادف في مطلعه يوم المرأة وفي آخره يوم الأرض، من الجدير التعاطي ليس مع الانتهاكات المتواصلة لحق النساء البدويات في السكن والمسكن الملائم فحسب، بل أيضًا مع انتهاك الحقّ بمفهومه المادي، والذي ينجم عن هدم البيوت في النقب. لقد جرى، مؤخّرًا، هدم أكثر من 200 منزل للبدو في النقب، وهناك عدّة آلاف من أوامر الهدم التي لم تُنفّذ بعد. ولا شكّ في أنّ لهدم البيوت تأثيرًا على مجمل الناس الذين يسكنون في النقب – رجال، نساء، أطفال، مسنّون، رضّع – لكن في ودّي التطرّق باقتضاب إلى التأثيرات غير المباشرة لموجة عمليات الهدم التي تقوم بها مؤسّسات السلطة على النساء البدويات.

 

إنّ هدم البيوت هو أحد الانتهاكات الفظّة للحقّ في السكن والمسكن الملائم. ويتجسّد هذا الانتهاك في حرمان كلّ بنات وأبناء العائلة الذين يعيشون في البيت من سقف يؤويهم. فهو يسلب من العائلة، بمن في ذلك النساء، الحقّ في العيش بكرامة، ضمن الحدّ الأدنى المطلوب للعيش الإنساني، والحياة الأسرية السّليمة والكاملة. ولكن قبل كل شيء، فهو يحرم النساء من كرامتهن، أمنهن وسلامتهن. بالإضافة إلى ذلك، فهناك علاقة وثيقة بين انتهاك الحقّ في السكن وبين تعاظم ظاهرة العنف ضد النساء. فظاهرة هدم البيوت تضطرّ العائلة التي تم هدم بيتها الى الانتقال للسكن، بشكل مؤقت أو دائم، مع العائلة الموسّعة. ظروف العيش مع العائلة الموسّعة قاسية جدًا. وتتميّز بالكثافة العالية، انعدام الخصوصية، تقييد الحرّية وجعل الحيّز الذي يفترض أن يكون "مسموحًا" للمرأة البدوية حيّزًا "ممنوعًا" بأكمله، بسبب وجود رجال آخرين غير الزوج، الابن والأب. أما المسؤولية الواقعة على كاهل النساء ووظيفتهن داخل البيت فتكبران، بحيث يصبحن مسؤولات عن العناية ليس بأزواجهن، أولادهن أو آبائهن فحسب، بل وبأبناء العائلة الموسّعة التي انضمّوا إليها، أيضًا. ظروف المعيشة داخل كثافة عالية، وسط ازدياد المسؤولية وحركة الرجال داخل الحيّز الخاص "المسموح"، تزيد من حدة الفقر، الإحباط والضغوط بين الزوجين نفسيهما وبين مجمل بنات وأبناء العائلة. وهو ما قد يؤدّي إلى تنامي العنف ضدّ النساء داخل العائلة المصغّرة والموسّعة.

 

وهكذا تتحوّل السياسة الموجّهة "من الأعلى إلى الأسفل" إلى وسيلة بيد السّلطة ليس لغرض السيطرة على أقليّة إثنية، وعلى تحرّكها ونمط حياتها فحسب، بل لكي تتحوّل أيضًا إلى اليد اليمنى التي تساعد على تكريس وتقوية ظاهرة قمع النساء في الحيّز الواسع عمومًا، وفي الحيّز الخاصّ تحديدًا.

 

 



[1] Somporn Surarith, Women's Struggle for Housing in Thailand 11(2) CDN. Women STDS 15, 15 (1990).

[2] سبيرسكي وحسون، مواطنون شفافون، سياسة الحكومة تجاه البدو في النقب، مركز أدفا، أيلول 2005، ص 5. (بالعبرية)

 

[3] أفينوعام مئير، التوتّر بين بدو النّقب والدولة سياسةً وواقعًا. القدس: معهد فلورسهايمر لأبحاث السياسة، 1999، من: سبيرسكي وحسّون، الهامش 3، ص 8 (بالعبرية).

بصياغة د. عامر الهزيّل، الذي شغل وظيفة مستشار إستراتيجي للمجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها في النقب: "هذا ليس سرًّا أنّ هدف التخطيط الإسرائيلي على المستوى القطري واللوائي هو تهويد الحيز التخطيطي عن طريق تركيز أكثر ما يمكن من العرب على أقل ما يمكن من الأرض وتوزيع أقل ما يمكن من اليهود على أكثر ما يمكن من الأراضي". د. هامر الهزيل، القرى غير المعترف بها في النقب من الخطاب السياسي المُقصي إلى الخطاب التخطيطي المعترف، تخطيط بديل مقابل تخطيط مؤسسي، محاضرة في معهد طرومان، الجامعة العبرية، 2.3.04. من: سبيرسكي وحسّون، الهامش 3 ص 9-8.

[4] أقيمت مديرية تطوير البدو عام 1986، لغرض إدارة مفاوضات مع سكان بدو قدّموا دعاوى بشأن الملكيّة على أراضٍ في النقب.

[5] الهامش رقم 3، ص 16.

[6] Fenster, T, Space for Gender: Cultural Roles of the Forbidden and the Permitted, Environment and Planning, D: Society and Space 17 (1999), 227-246

[7] المصدر أعلاه.

[8] الهامش رقم 3، ص 3.

[9] المصدر أعلاه.

[10] المرأة العربيّة في النقب: واقع وتحدّ 2005، معًا – اتحاد الجمعيّات النسائيّة العربية في النقب، ص 25.

[11] L. Farha, Is There A woman in the House? Women and the Right to Adequate Housing,  Resource Guide to Women's International Human Rights (Transnational Publishers, 1998), p. 17.

[12] الهامش7 ، ص 199

[13] الهامش 7.

[14] المصدر أعلاه.

[15] الهامش 11 ص 31-30.

[16] للاطلاع على المزيد بشأن مشاركة النساء البدويات في دائرة العمل، يُنظر: الهامش 11 ص 31، الحولية الإحصائية للبدو في النقب 2004،

ملفات متعلقة: