تقرير المصير كعدم سيطرة: رؤًى تطبيقيّة بشأن فلسطين/ إسرائيل

بروفيسور آيرس ماريون يونغ | مجلة عدالة الألكترونية، العدد 12نيسان 2005
ماذا يعني أن تمارس المجموعات حقها في تقرير المصير، لكن ليس على غرار نموذج سيادة دولة- الأمّة؟

   

   بروفيسور آيرس ماريون يونغ  [1]| مجلة عدالة الألكترونية، العدد 12، نيسان 2005

يعتقد القليل من المعلّقين السياسيين، اليوم، أنّ كل شعب مميّز يمكنه - ويجب - أن تكون له دولة ذات سيادة حصرية له. وعلى الرغم من ذلك، تواصل معظم الكتابات حول تقرير مصير الشّعوب تبنّي نموذجٍ من تقرير المصير يعبّر عن صورة الدولة ذات السّيادة. ووفقًا لهذا النموذج، يعيش أفراد الشّعب المقرّر لمصيره سويةً في منطقة واسعة من الأرض، نسبيًّا، لا يعيش عليها سوى أفرادٍ من مجموعتهم، وتكون هذه المنطقة المتجانسة متواصلةً وذات حدود؛ يمارس الشّعب المقرّر لمصيره فيها حقوقًا راسخةً من الحكم الذاتيّ. قد لا يكون هذا الإقليم ذا سيادةٍ، بل يمكن أن تربطه علاقة رسميّة بدولة كبيرة. لكن، عندما تعيش مجموعات ذات متطلبات متضاربة في ما يتعلّق بالسّيادة الحصرية على منطقة ما، جنبًا إلى جنب، مثل إيرلندا الشّمالية أو جمهوريات يوغوسلافيا السّابقة، فإن من شأن التقيّد بهذا النّموذج أن يؤدّي إلى الظّلم وتأبيد دوائر العنف.

 

 

 

 

 

 

 

 

يكمن أحد أسباب مثل هذه العواقب في انعدام وجود توافق بين نموذج تقرير المصير هذا، من ناحية، وبين الوضع الحقيقي للشّعوب المتنازعة، من ناحية أخرى. يسكن في معظم المناطق الشاسعة عدد من الشّعوب التي تعتبر نفسها مميَّزة، وهي عادةً ما تكون منتشرةً في أنحاء هذه المنطقة، في جيوب صغيرة، بلداتٍ، قرًى أو أحياء تقع على مقربة من بلدات أو أحياء يعيش فيها أفراد من المجموعات التي يميّزون أنفسهم عنها.

 

 

 

 

 

 

 

 

لذلك، وبدلاً من تأسيس مفهوم تقرير المصير على الفرضيّة القائلة بأن الشّعوب منفصلةٌ أو قابلةٌ للانفصال، يجب علينا، نحن المهتمّين بالسّلام والعدالة، وضع مفاهيم تقرير المصير بشكل يتوافق مع حقيقة أنّ الشّعوب تعيش، عادةً، سويةً في مناطق محدّدة؛ لذلك فإنّهم يعانون مشاكل مشتركة، وتؤثر نشاطات أفراد مجموعة واحدة على إمكانيّات عمل المجموعات الأخرى.

 

 

 

 

 

 

 

 

سأقدّم في هذه المقالة مفهومًا لتقرير المصير يتوافق مع الوجود "سويةً باختلاف"(together-in-difference). [2] وفي الوقت الذي يعرض فيه المفهوم العادي تقرير المصير على أنّه عدم تدخّل، فإنني أقولب مفهوم تقرير المصير على أنّه عدم سيطرة. وتلمّح مبادئ عدم السّيطرة إلى العلاقة الكامنة بين وحدات تقرير المصير والتنظيم المشترك لمثل تلك العلاقات. وأقترح، بغية فهم تطبيق هذا النموذج، أخذ مطالب الشّعب الأصلاني كما لو أنّها مطالب عادية وليست استثنائيّة. ويلمّح هذا النموذج من تقرير المصير إلى الفيدرالية كصيغة من العيش سويةً مع وحدات تقرير مصير أخرى. مع ذلك، تفترض العديد من النقاشات حول الفيدرالية أنّ الوحدات المستقلّة هي مناطق كبيرة، مسكونة بشكل متجانس ومتواصلة. إنّ تعليق مثل هذه الفرضيّة من شأنه أن يشقّ الطريق أمام فهم العلاقات الفيدرالية على أنّها أكثر محلّيةً، جمعيّةً وأفقيّةً. ومن أجل أن نبيّن كيف يمكن لمبدأ تقرير المصير هذا أن يساهم في تصوّر البدائل في وضع نزاع سياسيّ بين مجموعات، سأطبّق التّحليل على وضع إسرائيل/ فلسطين.

 

 

 

 

 

 

 

 

1. الشّعب الأصلانيّ كنموذجيّ

 

 

 

 

 

لقد حقّقت مطالب الشّعوب الأصلانيّة بتقرير المصير، خلال ربع القرن الأخير، شرعيةً كبيرة في المجتمع الدولي وكذلك في السياسة الداخلية للعديد من الدول. وعلى الرّغم من جهود بعض الدول في ما يتعلّق بتطبيق سياسة تهدف إلى استيعاب المطالب الأصلانية بتقرير المصير، إلا أنّه ما من شعب أصلانيّ في العالم يعتقد أنّه حقّق تقرير المصير بشكل كامل. لكن، وعلى نحو متناقض، ما من شعبٍ من الشّعوب الأصلانية يحدّد هدفه السّياسي على أنّه الانفصال عن الدولة التي تدّعي حقّ الصلاحيّة القضائية عليه، بغية إقامة دولته ذات السّيادة. وأنا أقترح أن في إمكان مفهوم تقرير المصير، الذي يتوافق مع تطلّعات معظم الشّعوب الأصلانيّة، أن يكون مجديًا أكثر بالنسبة إلى النزاعات السياسية التي تشمل الشعوب التي ترى نفسها متميّزة، إلا أنها تعيش جنبًا الى جنب، أو أنّها منتشرة في أراضٍ متواصلة. [3]

 

 

 

 

 

إن المقوّمات الأخرى لوضع ومطالب الشّعوب الأصلانية تجعل هذا النّموذج مجديًا للتنظير بشأن تقرير المصير. وقد تعرّضت الشّعوب الأصلانية إلى تاريخ طويل من الظّلم والهيمنة تحت الاستعمار في كل مكان يكون فيه التصنيف الأصلاني مقبولا، نسبيًّا، لا سيّما في أمريكا الشّمالية والجنوبية، أستراليا ونيوزلندا. إن مطالب تقرير المصير التي تطرحها الشّعوب الأصلانية تحصل على بعض من شرّعيّتها في عيني الآخرين من خلال الحكم بأنّ تاريخ السيطرة هذا كان خاطئًا وأن الوضعيّة الحالية الظالمة لمعظم الشعوب الأصلانية، كأفراد وكمجموعات، تقتضي أن يتمّ تحسين استقلاليّتها.

 

 

 

 

 

 

 

 

لا يوجد أيّ مكان، تقريبًا، تشكّل الشعوب الأصلانيّة فيه مجموعة كبيرةً ومركّزةً في منطقة ما. علاوةً على ذلك، عادةً ما يتمّ تحديد الهوية القومية بلغة المجموعات التقليدية التي تعتبر ذاتها مرتبطة بأمكنة معيّنة، وأنّ الشّعوب التي تطالب بتقرير المصير لأنفسها هي مجموعات محلّية صغيرة ومتفرّقة، عادةً ما تعيش إلى جانب شعوب غير أصلانيّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

يحاول بعض منظّري القوميّة والتعدّدية الثقافيّة التخفيف من حدّة النزاع بين مطلب الشّعوب المتميّزة بتقرير المصير ورغبة الدول في إبقاء سيطرتها على النشاطات في منطقة معينة، من خلال المُحاججة بأنّ أفضل طريقة للاعتراف بالمطالب القومية هو من خلال نظم الاستقلالية الثقافيّة. وتكمن القوميّة الليبرالية، وفقًا لهذا الرأي، في ضمان تمتّع الأقليّات القوميّة بصلاحيّة السيطرة على إنتاج الثقافة القوميّة، التعبير عنها ونشرها– القدرة على التحدّث بلغتهم دون عوائق، الحرية الدينيّة، حكم ذاتي في المؤسّسات الدينية، إنشاء مدارس تتمتّع بالاستقلاليّة وما شابه ذلك. [4] لكن، لا يعتقد أيّ شعب من الشعوب الأصلانية أنّ من شأن تأسيس استقلالية ثقافية، مهما بلغت أهميّتها، أن تكون كافيةً لممارسة حقهم في تقرير المصير. وتتضمّن مطالبهم، بشكل حتمي، السيطرة على الأرض والموارد، ليس بسبب كون هويّاتهم مرتبطة بالمكان فحسب، بل، أيضًا، لأنّهم يقدّرون بأنّ تحسّنهم ماديًّا كأفراد وكمجموعات يقتضي وجود أراضٍ وموارد يكون بمقدورهم، كمجموعةٍ، اتّخاذ قرارات مستقلّة في شأنها. [5] وأخيرًا، عادةً ما تتضمّن المطالب الأصلانيّة بتقرير المصير مطالب التوزيع المجدّد أو الإعانات المالية لمؤسّساتهم الحكومية ومؤسّسات الخدمات الاجتماعية. وقد قامت بعض الدول باتّخاذ خطوات تستجيب لهذه المطالب. من دون هذا الدعم، وفي العديد من الحالات، ستتوفر لدى المجموعات الأصلانيّة القليل من الوسائل لممارسة حقوقهم المتعلقة بتقرير المصير.

 

 

 

 

 

 

 

 

وهكذا، فإنّ مطالب الشّعوب الأصلانية بتقرير المصير تثير الأسئلة التالية: ماذا يعني أن تمارس  المجموعات حقها في تقرير المصير، لكن ليس على غرار نموذج سيادة دولة- الأمّة؟ كيف يمكن للمجموعات، الصغيرة نسبيًّا والموزّعة مناطقيًّا بين آخرين والذين يرون أنفسهم على أنّهم ينتمون إلى مجموعات مختلفة، أن تمارس حقها في تقرير المصير دون ضرورة السّيطرة على المناطق الواسعة التي يتركّزون فيها والتي يحقّ لها استثناء الآخرين منها؟ كيف يمكن أن يتمّ الاعتراف بمثل تقرير المصير الموزّع هذا، خصوصًا عندما يكون مطلب المجموعات بالسّيطرة على الأرض والموارد مقرِّرًا للمصير؟ كيف يمكن فهم العلاقات بين تلك المجموعات وغير الأصلانيين الذين يعيشون بين ظهرانيهم؟ هل هنالك مفهوم لتقرير المصير تكون فيه مثل تلك المعونات الماليّة، عند احتياجها، متناغمة مع مطالب الشّعوب الأصلانية بتقرير المصير؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

2. مفهومان لتقرير المصير

 

 

 

 

 

إضافةً إلى ذلك، ثمّةَ عدد من السلبيّات في نموذج عدم التدخل الخاصّ بتقرير المصير. أحد أهمّ الأسباب التي تدفع المجموعات للسّعي وراء تقرير المصير هو الحماية من سيطرة الآخرين. ويلبّي نموذج عدم التدخّل هذا الهدف بشكل غير  كامل، وأحيانًا لا يلبّيه البتّة. ويفترض نموذج عدم التدخّل أنّ الوحدات المستقلّة يمكنها أن تكون منفصلة بشكل ملائم، وهي منفصلة فعلاً، ولا تحتاج أن يكون بينها أي تفاعل آخر سوى التفاعل الذي تشارك فيه هذه الوحدات طوعًا. لكن، في الحقيقة، عادةً ما تكون شعوب العالم مُختلطةً من ناحية جغرافيّة، أو تعيش على مقربة من بعضها بعضًا، ضمن بيئات مادية واجتماعية تؤثّر فيهم معًا. ويكون لديهم العديد من التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية حيث يؤثر كلّ شعب من هذه الشّعوب على الآخرين، ويخاطر كلّ واحد منها بأن تؤثّر أعمال الآخرين فيه، بشكل مناقض لمصلحته، بسبب العلاقة القائمة بينهم. قد تكون بعض الوحدات الضعيفة غير حصينة أمام سيطرة الوحدات الأقوى، وذلك ليس بسبب التدخّل المباشر للوحدات الأقوى، وإنّما لأنّ هذه الوحدات تحدّد الظّروف التي تكون فيها الوحدة الضعيفة مرغمةً على العمل.

 

 

 

إضافةً إلى ذلك،

ملفات متعلقة: