النكبة ليست وجهة نظر: نقد المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ في إسرائيل في الذكرى الـ 63 للنكبة

حنين نعامنة | مجلة عدالة الإلكترونيّة، العدد 83، حزيران 2011
"بلا معلّمية": نكبة الشعب الفلسطينيّ هي تدبير وتخطيط استعماري للتطهير العرقي ولنهب الأراضي

 

حنين نعامنة | مجلة عدالة الإلكترونيّة، العدد 83، حزيران 2011

لم يكن ثمّة ما هو مفهوم ضمنًا في ذكرى إحياء النكبة هذا العام. نيران الثورات العربيّة طالت أطرافنا الفلسطينيّة أينما امتدّت. الزحف الفلسطينيّ، الذي كسر حاجز الخوف فعلاً وحسًّا، قوبل بالدهشة وبالترقّب وبالانتظار... وبالافتخار. بَيْدَ أنّه على الرغم من تحرّك لافت لأقلّـيّة من الأطر السياسيّة في "الداخل" الفلسطينيّ التي حاولت المشاركة في الحدث لتمنعها المؤسّسة الإسرائيليّة -وهو ما أسفر عن اعتقال عدد من الناشطين السياسيّين-، رأينا تقاعسًا من "القيادة" السياسيّة والمجتمع المدنيّ الفلسطينيّ، إذ لم تقم أي جهة حتّى بالحدّ الأدنى من الواجب السياسي؛ لم ترفع أيّ مؤسّسة ولا أيّ إطار من هؤلاء نعيًا مشرّفًا لشهداء هذا الحدث العظيم. ويبدو أنّ أفضل وصف يمكن أن يُعطَى للمجتمع المدنيّ الفلسطينيّ في إسرائيل هو دور "المتفرج" لمسلسل التغيير العربيّ عبر التنظير عليه بدل استقاء العبر من أجل بلورة خطاب جديد يواكب رياح التغيير العاصفة في الأرجاء.

تَركَّزَ خطاب المجتمع المدنيّ -في هذه السنة على وجه التحديد- على هجمة القوانين العنصريّة التي صدرت عن الكنيست، والتي رأى بها الكثيرون تصاعدًا وتفاقمًا فارقَيْن في تاريخ العنصريّة الإسرائيليّة. ولم تأتِ الحملة التي قامت بها المؤسّسة الصهيونيّة "إم ترتسو" تحت عنوان "نكبة خرطة" مروّجة أنّ النكبة ليست إلاّ أكذوبة ابتدعها الفلسطينيّون، لم تأتِ إلاّ لتزيد "الطين بلّة".

تعامُلُ المجتمع المدنيّ مع "موضوع" النكبة تَـلَخّص في النهج التقليديّ ذاته الذي يتّبعه هذا المجتمع في المعتاد؛ فعل "ردّ الفعل" المتمثّل أغلب الوقت في موقف دفاعيّ "متآخٍ /متصالح" يرمي إلى الشرح والتعليل واستقطاب "الآخر" عبر عرض الحقائق /الثوابت الفلسطينيّة كوجهات نظر. وتبرز هشاشة هذا الطرح -أكثر ما تبرز- في سياق عرض نقطة التحوّل الأهمّ والأكثر قسوة وزعزعة في تاريخ الشعب الفلسطينيّ؛ نكبة عام 1948، كوجهة نظر وقضيّة أخرى تتبع لركْب "قضايا الصراع العربيّ - الإسرائيليّ" التي يجترّها "المجتمع الإسرائيليّ" يسارًا ويمينًا، ثمّ يلفظها لنا لنتسابق على إبداء آرائنا بها. ويأتي هذا التعامل صادمًا على ضوء الطرح والآليّة الإسرائيليّين لـِ "القضيّة" بحيث يتوجّه خطابهم إلى بعضهم البعض أساسًا، في ما تمدّ مؤسّسات المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ أياديها لهم طلبًا للحوار! وهاكم مثالين ممّا أدْلتا به مؤسّستان مركزيّتان في المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ في إسرائيل، تعكس كلّ واحدة منهما توجّهات سياسيّة وحزبيّة وفكريّة ومهنيّة مختلفة. 

قام مركز "مساواة" بإصدار ملصق كُتب عليه باللغة العبريّة (وفقًا لترجمتي):
"النكبة... تعال نتحدّث عن ذلك" ("هنكبا... بو ندبير عل زيه")، في حين يحل مكان هذا الشعار بالنسخة العربية للملصق؛ "النكبة.. قصة شعب". أوّل ما خطر في مخيّلتي حين قرأت النص العبري، هو الملصقات التي توزّعها المؤسّسات النسويّة وغيرها على النساء لحثّهم على الحديث عن حالات اعتداءات جنسيّة ضدّهم، إلاّ أنّه جرت العادة أن يوجّه هذا النداء إلى الضحية لا إلى الجاني! والعلّة الكبرى في ملصق كهذا تكمن في استخدامه لشعار ندائيّ استعطافيّ إسرائيليّ بحت، يدعو إلى "الأخذ والعطا" في "قضيّة" سياسيّة هي النكبة، وأنّنا كجزء من مجتمع واحد -المجتمع الإسرائيليّ- ينبغي بطرق حضاريّة الانفتاح والانكشاف على الآخر والتشارك في وجهات النظر ومناقشاته، وإن كانت "مختلفة"!

"بلا معلّمية"،
أقول: نكبة الشعب الفلسطينيّ هي فعل فاعل لحركة استعماريّة مدرَّبة ومجهَّزة قامت بتخطيط وتنفيذ عمليّات تطهير عرقيّ وسلب ونهب لأرض كاملة؛ هذا واقع لا وجهة نظر. النكبة وإسقاطاتها هي المرجعيّة الأخلاقيّة والإنسانيّة والسياسيّة التي نرتكز عليها جميعنا أفرادًا وشعبًا أينما حللنا. وقد أتجرّأ فأقول إنّه في ظل الوضع الراهن الفلسطينيّ، ونظرًا للفُرقة التي آلت بنا إلى ما نحن عليه اليوم، يبدو أنّ النكبة هي الحجر الوحيد الذي تقف عليه وحدة شعبنا بثبات. من هنا، "قضيّة" النكبة واضحة جلية ولا غبار عليها، ولا حاجة لنا بصوغها ضمن شعارات ردّ فعل على حملات مجرّدة الأخلاق والقيم. النكبة الفلسطينيّة غير قابلة أن تكون جزءًا من أيّ مشروع تعايش؛ المواطنة والحقوق "المدنيّة" على حِدة، وثوابتنا الفلسطينيّة -البعيدة عن الشعاراتيّة كما أثبت أبطال ذكرى النكبة هذا العام-، على حِدة! وإن كان ثمّة ما يستحقّ الثناء لدى الصهاينة فهو خطابهم الواضح تجاه ثوابتهم ومرجعيّاتهم -وإن كنّا نراه مشوَّهاً أخلاقيًّا-؛ فالمحرقة (والأمر هنا ليس من باب مقابلة ذلك بالنكبة) ليست وجهة نظر فيجري تداولها مع الآخر؛ هي الخطّ الأحمر الذي لا يُتجاوَز.

المثال الثاني؛
قام مركز "عدالة"، بمشاركة "جمعيّة حقوق المواطن في إسرائيل"، بتقديم التماس إلى المحكمة العليا الإسرائيليّة، ضدّ ما أُطلِق عليه ظلمًا وخطأً "قانون النكبة"، وهو باختصار ووَفقًا لشرح موقع "عدالة"، قانون "يسمح لوزير الماليّة بفرض الغرامات على مؤسّسات تُموّلها الدولة، كالمدارس والجامعات والسلطات المحلّـيّة، إذا قامت بتنظيم برامج يشار فيها إلى "يوم الاستقلال، أو يوم قيام دولة إسرائيل، كيوم حداد" أو تقوم بتنظيم مناسبات تنفي "تعريف دولة إسرائيل كدولة يهوديّة وديمقراطيّة". وجاء في البيان الذي أصدره المركز عقب تقديم الالتماس: "يعاقب القانون المواطنين العرب بسبب هُويّتهم الأخرى والمغايرة، وقد يعزّز حالة الاغتراب، والتحريض، والعنصريّة ضدّ المواطنين العرب"!.

فلنتوقف لحظة عند ملخَّص ما ينادي به الالتماس المنادي بإبطال القانون المذكور: مطالبة دولة تُعَدّ امتدادًا لمشروع استعماريّ يرى النكبة حدثًا كان لا بدّ له أن يحدث ولا ضير في حدوثه، بأن تموّل أو على الأقلّ لا تغلق "الحنفيّة" أمام المؤسّسات والأفراد الذين تموّلهم في المعتاد، حين يقومون بإحياء ذكرى هذا الحدث، أي النكبة.

وهنا يأتي السؤال صارخًا: هل كان سليمًا ومدروسًا على المستوى السياسيّ الذهابُ في المساق "القانونيّ" للمطالبة بمثل هذا المطلب،
مضافًا إلى ذلك الشراكةُ مع جمعيّة إسرائيليّة تنادي بطبيعة الحال بحقوق مدنيّة بحتة؟. ألم يكن من الأجدر الامتناع عن الانجرار إلى نقاش حول "حقّ الأقلّـيّة العربيّة" بإحياء ذكرى "نكبتها" كجزء من هُويّتها "الأخرى والمغايرة" في المحاكم الإسرائيليّة؟ ألم يكن من الأجدى -عوضًا عن ذلك- العملُ على انتهاز فرصة سَنّ هذا القانون للشروع في سبيل تأسيس قاعدة اقتصاديّة فلسطينيّة مستقلّة عن الميزانيّات التي تمسكنا بها الحكومة الإسرائيليّة (كغيرها من الأمور)، بغية تفعيل حِراك شعبيّ /وطنيّ يصهر المجتمع المدنيّ والأطر الأخرى في مصلحة واحدة؟

وللتنويه؛ هذا التحفّظ لا يدّعي اتّخاذه كقاعدة تنطبق على كلّ القضايا والحالات القضائيّة، بل هو نقد مطروح من باب فتح النقاش على إستراتيجيّة جديدة ينبغي اتّخاذها والحثّ على اتّباعها في إطار العمل القانونيّ الفلسطينيّ في إسرائيل، رغم كلّ محدوديّات هذا العمل الذي يشكّل -بطبيعة الحال- حالة "ردّ فعل" مستمرّة لممارسات المؤسّسة الإسرائيليّة. لقد حان الوقت لتطوير إطار عمل "ردّ الفعل" القانونيّ، على نحوٍ يناسب الحاجة إلى بلورة خطاب وطنيّ جديد وواضح. وقد يأتي ذلك عبْر تقليص المساحة التي نتيحها للسلطات القضائيّة الإسرائيليّة في التدخّل في قضايا جوهريّة لها خاصّيّة وطنيّة فلسطينيّة لا نريد للمحاكم الإسرائيليّة البتّ فيها وتقزيمها إلى الخطاب المدنيّ لـِ "أقلّـيّة قوميّة داخل دولة ديموقراطيّة". عوضًا عن ذلك، المجاهرة بالمواقف الرافضة للأدوات القانونيّة والرمي بذلك في وجه المؤسّسة الإسرائيليّة كمقولة سياسيّة فلسطينيّة جامعة، مع العمل في ذات الوقت على الدفع باتّجاه القيام بعمل شعبيّ وسياسيّ ناجع. حتّى اللحظة، تَلخَّصَ العمل -كلّما كانت هناك خسارة لقضيّة أو عدم استنفاد لها قانونيًّا لسبب أو لآخر- في جلوس القيادة السياسيّة مكتوفة الأيدي وتخلّيها عن العمل الشعبيّ، وكأنّ التغيير سيأتي هاتفًا من ردهات المحاكم الإسرائيليّة!

إنّ القانون المذكور أعلاه، والحملات التي تشنّها مؤسّسات صهيونيّة (مثل "إم ترتسو")، تنبع عن فكر تأسيسيّ متقدّم وراسخ منذ أكثر من قرن من الزمن للمشروع الصهيونيّ؛ ويبقى السؤال: هل نريد أن نتابع العمل على تغيير هذا الخطاب الصهيونيّ على حساب بلورة وبناء كيان فكريّ وطنيّ جامع يكون مستقلاًّ واضحًا واعيًا، تتناقله الأجيال جميعها بعزم وتَحَدٍّ مهما اشتدّت المعركة وحميَ وطيسها؟


الجواب يبدو -الآن، أكثر من أي وقت- واضحًا لا لبْس فيه!
 

 

* الكاتبة محامية في وحدة الأرض والتخطيط في مركز "عدالة".                           

ملفات متعلقة: