النزاعات الإثنية ومشاركة السلطة

ياش غاي | مجلة عدالة الألكترونية، العدد 13، أيار 2005
إنّ السكان يصبحون أكثر تجانسًا، والمعايير الدولية تولي اهتمامًا متزايدًا بالحقوق الفعّالة والمشارِكة الخاصّة بالأقليات

  

 

ياش غاي[1]مجلة عدالة الألكترونية، العدد 13، أيار 2005

 

 

إنّ المسوّغ لترتيبات مشاركة السّلطة، التي يتمّ تصنيفها أحيانًا على أنها اتحادية (consociational)، هو النزاعات الداخلية الناشئة عن التوزيع غير العادل للموارد بين المجموعات السكّانية أو المناطق، وهيمنة مجموعة سكانية معينة أو أكثر على المجموعات الأخرى، واستثناء بعض المجموعات، أو إنكار لغة الأقليّات أو ثقافتها أو ديانتها. معظم هذه العوامل متداخلة بشدّة في بُنى الدولة وفي المنفذ الى هذه البنى. وتُصوّر ترتيبات مشاركة السلطة على أنّها تَوجّه لتشكيل الدولة له أفضلية على ديمقراطية الأكثرية أو الاستبداد الإثني. ويجري الادّعاء بأن حكم الأكثرية في مجتمع متعدّد الإثنيّات يؤدّي إلى خضوع الأقليّات الأبديّ لإرادة الأكثرية. ويؤدّي ذلك إلى إنكار تاريخهم وتقاليدهم وهويّتهم. وهنالك نزعة لإقصائهم عن موارد الدولة أو إتاحة منفذ غير متساوٍ لهذه الموارد. إنّ الاستياء الناجم عن ذلك ينفجر، عادةً، على شكل أعمال عنف، ويؤدّي إلى نزاعات طويلة المدى.

 

رحّبت الأقليّات في العديد من الدول بتوجّه الاتحادية (consociational)، إذ أنّه يضمن لهم دورًا في وضع القوانين وتطبيقها وفي بلورة السياسات، كما يضمن، أحيانًا، درجةً من الحكم الذاتي. أما المنظّمات الدولية والإقليمية الناشطة، أو المعنيّة بحلّ النزاعات الإثنية لأسباب إنسانية بالإضافة إلى رغبتها في الاستقرار الإقليمي، فإنّها تدعم الترتيبات الاتحادية كطريقة لخلق توازن مع مطالب المجموعات السكانيّة المختلفة – وكطريقة مريحة للتخلّص من المشكلة. من النادر ألا نجد الترتيبات الاتحادية على أجندة المجتمع الدوليّ في هذه الأيام التي يتمّ فيها التدخّل الدوليّ في النزاعات الداخليّة. وعادةً ما تكون ثمّة ضرورة لممارسة ضغوطات خارجية، إذ من غير المرجّح أن توافق الأكثرية على ترتيبات دستورية يُفهم من خلالها أنّها تقلّص من سلطتها أو صلاحيّتها. وتمثّل الترتيبات الاتحادية، عادةً، نقطة التقاء المبادئ السامية بالارتياح.

 

في الوقت الذي يثني فيه السياسيون الدوليون على فضائل مشاركة السلطة، نجد أنّ هناك خلافًا حادًّا بين المفكّرين والأكاديميين حول قيمة مشاركة السلطة. ويشمل هذا الخلاف مختلف القضايا. فقد قيل، على سبيل المثال، إنّ العديد من الدول التي تمّ الاستشهاد بها على أنّها أمثلة ناجحة للترتيبات الاتحادية هي، في الحقيقة، غير اتحادية. إستشهد العديد من الكتاب بفيجي على أنّها دولة اتحادية ناجحة، لكن أكثر ما يمكن وصفها به، على الأقلّ حتى وضع الدستور الذي كتب له الفشل في العام 1999، هو أنّها دولة مسيطَر عليها إثنيًا. وتوضع اليوم جنوب إفريقيا ضمن مجموعة الدول الاتحادية، ولكن الحقيقة هي أنّ قادة المؤتمر الوطني الأفريقي قاوموا بشراسة أيّ انحراف عن ديمقراطية الأكثرية الليبرالية عندما تمّت الموافقة على الدّستور النهائي.

 

ينتاب الآخرون القلق بشأن مستوى الديمقراطية، الشفافية والمساءلة. عادةً ما تكون الترتيبات الاتحادية مصحوبة بدرجة عالية من السرية بين القادة. ونظرًا لكون المشاركة السياسية مستندة إلى العضوية في مجتمع ما، يتمتّع قادة المجتمع، الذين هم عادة ما يكونون معيّنين ذاتيًا، بتأثير قويّ على المنافذ المؤدّية إلى بُنى الدولة. وعادة ما تكون الترتيبات الاتحادية مستندة إلى درجة عالية من الحقوق الجماعية وإلى أنماط من الحكم الذاتي تستند إلى السلطة التقليدية. يمكن لبنى السّلطة هذه أن تلحق الضرر بمجموعات معيّنة، مثل مجموعات النساء والأشخاص الذين ينتمون إلى الطبقات الدنيا (كما يظهر ذلك في التّمييز الموجّه ضدّ النساء الأصلانيّات في المحميّات الكندية أو النساء المسلمات في الهند). في بعض الأحيان، تترافق الترتيبات الاتحادية مع التعدّدية القانونية التي تصادق على أنظمة القانون العرفيّ، والتي تطبّقها المحاكم الدينية أو المجتمعية، أحيانًا. وأظهر بحث أعدّه مارتن إدلمان حول القوانين والمحاكم الدينية في إسرائيل عواقبها السلبية على حقوق مجموعات محدّدة وعلى مقاومة الإصلاح وعلى تجزئة المجتمع. لا تستطيع بعض الدول أن تحافظ على الترتيبات الاتحادية إلا من خلال فرض تقييدات على حرية التعبير وعلى حقوق المشاركة السياسية الكاملة الأخرى. ويمكن وصف بعض الدول التي تسمّى اتحادية، بشكل أكثر دقّةً، بأنّها مثال على الهيمنة الإثنية، حيث تكون مجتمعات الأقليّة فيها مرغمةً على قبول سلطة الأكثرية الواسعة (مثال على ذلك، ماليزيا). وتعرّض المطالبات بمساءلة قادة المجموعة المهيمنة حقوق مشاركة الآخرين إلى الخطر، ولذلك لا يتمّ تشجيعها. كذلك، يشكّ نقّاد الترتيبات الاتحادية في مدى استقرارها. فطالما يعتمد النظام السياسي على التعاون بين قادة المجموعات المتحدة، فإنّ التلاحم الداخليّ الجدّي لكلّ مجموعة هو مطلب مسبّق بغية الحفاظ عليه. ويمكن المحافظة عليه، إلى حدّ ما، عن طريق الإكراه أو العقوبات (وكلاهما غير مرغوب فيهما)، لكن ليس لفترة طويلة.

 

هناك قلق بالنسبة للترتيبات الاتحادية من الطريقة التي يتمّ فيها إبرامها ووضعها في السياقات المعاصرة. وهي عادة ما تكون نتيجة لضغوطات خارجية شديدة. وأفضل مثال على ذلك هو المفاوضات حول دستور البوسنة والهرسك في ديتون برعاية القوى العظمى وبالتعاون مع تودجمان وميلوسوفيتش، وباقصاء شعب البوسنة. ويتمّ في الكثير من الأحيان تشكيل هذه الترتيبات من خلال مشاركة النخب الإثنية التي عادةً ما تكون قلقة أكثر على مصالحها الشخصية، أو الطبقية، بدلاً من الصالح العام. وتنشأ هذه الحالة، بشكل خاصّ، عندما يأخذ النزاع هيئة الحرب الأهليّة ويوافق قادة الطرفين (من خلال مفاوضات سرية) على اتفاق يُقصي المجموعات الأخرى عن السلطة أو المشاركة. ولربّما يكون هذا هو ما حدث في اتفاقية السودان الأخيرة، حيث كان الطرفان المتحاربان يطمعان في إيرادات حقول النفط الواقعة في منطقة النزاع. وتخشى العديد من المجموعات والمنظّمات من حدوث حالة مشابه في سيريلانكا حيث قد يبرم الرئيس اتفاقية مشاركة سلطة مع قادة التاميل ويتمّ إقصاء المجموعات والمجتمعات الأخرى.

 

يعاني العديد من ترتيبات مشاركة السلطة المعاصرة الكثير من التعقيدات في قوانين التمثيل في الهيئتين التشريعية والتنفيذية، وفي صنع القرار. وتكون الإدارات الرئاسية، أحيانًا، بمثابة هيئات جماعية قادمة من المجتمعات الكبيرة، ويُمنح حقّ النقض لكل عضو، ويكون هناك العديد من أشكال الاقتراع في الهيئة التشريعية، الأمر الذي يفسح المجال أمام إحدى المجموعات تأخير أو رفض إقتراح ما. قد تكون هناك العديد من طبقات السلطة كجزء من نقل الصلاحيات أو الحكم الذاتي الذي يقسّم الصلاحيات على بعض الفئات، وهو ما يجعل من فهم النظام أو تطوير سياسات مترابطة وشاملة بمثابة مهمّة صعبة. كما يجعل هذا الأمر إدارة الأعمال الحكومية معقّدة للغاية. ولا تبدو الاتحادية، في هذه الحالات وفي حالات أخرى، أنها تخفّف من حدّة المشاكل الإثنية، بل تحوّلها إلى أشكال أخرى.

 

ينتابني الشّكّ في أنّ العديد من نقّاد التوجّه الاتحادي منزعجون من الفرضية الكامنه فيه، والمتجذّرة في فكرة الدولة الأوليّة (primordialism)، والقائلة بأنّ الأشخاص من المجموعات الإثنية المختلفة لا يمكنهم العثور على مصالح مشتركة وعلى أساس للتعاون، وبأنّهم مغلقين في دائرة من العلاقات العدائية إلى الأبد، وبأنّ مشروع الهويّة الوطنية فاشل لا محالة، وبأنّ المصالح الإنسانية والاجتماعية الأساسية في مجتمع عادل، والكرامة الفردية، والتضامن المهنيّ أو الطبقي، والتعاطف الإنساني يجب أن تحتلّ مرتبةً أدنى من الخلافات الإثنيّة المُتخيّلة. وهم يرون أنّ التوجّه الاتحاديّ هو عامل يجزّئ؛ وتبيّن التجربة، فعلاً، ظهور عدد متزايد من المجموعات التي تدّعي بأنّ لها هُوية إثنيّة مميّزة، وتطالب بالاستحقاقات التي ترافقها، في التوجّه الاتحادي.

 

يقدّم مؤيّدو الاتحادية دفاعًا جريئًا أمام هذه الانتقادات ويتّهمون النقّاد بالفشل في توفير بدائل جديرة بالثقة. لا أنوي الدخول في النقاش أو تقييم جدارته النسبية. وأعتقد بأنه تمّ فهم النقاش بشكل خاطئ، نوعًا ما، إذ إنّه يغالي في عيوب النظام المقابل له، ويفشل في الاعتراف بالأهداف المشتركة لنقّاد التوجّه الاتحادي ولمؤيّديه. إنه لمن المجدي أكثر التفكير بلغة الطيف الذي يقع على طرفيه البعيدين التوجّه الاتحادي ونظام الأكثرية – وكذلك الاعتراف بأنّ التوجّه الاتحادي هو كناية عن توجّه ومجموعة قوانين على حدّ سواء، بعضها مقبول أكثر من البعض الآخر. وتقع معظم الدول، اليوم، في مكان ما على هذا الطيف، لكن ليس على الطرفين. وربّما يتعذّر تجنّب ذلك، إذ إنّ السكان يصبحون أكثر تجانسًا، والمعايير الدولية تولي اهتمامًا متزايدًا بالحقوق الفعّالة والمشارِكة الخاصّة بالأقليات، وقدرة المنشقّين على إثارة الاضطرابات والعنف تتزايد.

 

يكون السياق، في معظم الحالات، حاسما ومن الصعب التعميم بالنسبة إلى الدول والفوارق الإثنية. وتُوازِن أدوات التوجّه الاتحادي، في بعض السياقات، ثقل هيمنة الأكثرية، كما ستكون عليه الحال إذا تمّ التوصّل إلى تسوية في سيريلانكا، بينما عوّضت جرعات من الليبرالية والمساواة عن المنفذ المشترك غير المتساوي إلى الدولة في دستور فيجي للعام 1999. وتجد كندا، بشكل آخذ بالازدياد، أنّ التوفيق بين مطالب الكويبكيين والأمم الأولى يقتضي الاعتراف بالفرق وباستخدام قدر من التوجّه الاتحادي. كذلك، فإنّ التفكير النمطيّ لا يساعد في هذه الحالة. إنّ الانتقاد الشّامل للتوجّه الاتحادي يتجاهل كون العديد من أدوات التوجّه الاتحادي مجدية إلى حدّ كبير، وتهدف إلى الاشتمال، النسبيّة، الحكم الذاتي، المشاركة والعدالة الاجتماعية (مشاركة السلطة في الهيئة التنفيذية هي الأصعب والأكثر جدلا لكنها نموذجية). من ناحية أخرى، يغضّ نقّاد نظام الأكثرية الليبرالية النظر عن الجهود المبذولة ضمن التقليد الليبرالي للعثور على حيّز عام للغة ولثقافة الأقليات.

 

من هنا ينتج أنه من الضروري إجراء تعديل دقيق للقوانين والمؤسّسات. إنّ العلاقة بين الهوية العينية والهوية العامة (والتوازن بين الهويّات المتعدّدة التي يحملها كل واحد منا في داخله) تصبح معقّدة، وهي أقلّ تهديدًا لمشروع القومية ممّا تمّ الافتراض سابقًا. وتتوافق العديد من مظاهر الانتماءات الدينية أو الثقافية مع الهوية العامة المهيمنة. ويصبح التّمييز بين العام والخاص (هامّ جدًا بالنسبة للتوجّه الليبرالي وهامشيّ جدًا لمؤيّدي التوجّه الاتحادي) غير واضح. وتوفّر وجهة الدولة الليبرالية، بشكل تقليدي، عددًا قليلاً من الأدوات لموازنة المصالح الإثنيّة. ويساهم التوجّه الاتحادي بمجموعة من الأدوات لتلائم الحالات المختلفة. وفي حال نزوع إحدى الأدوات نحو الكثير من التجزئة، أو حرمان الآخرين من الحقوق، يمكن وقف ذلك عن طريق المعايير الليبرالية.

 

لِنُلقِ نظرةً على بعض هذه الأدوات لمعاينة كيف يمكن تحقيق التوازن. إحدى هذه الأدوات التي تَلقى استحسانًا كبيرًا هي الحكم الذاتي. يخدم الحكم الذاتيّ نفس المصالح التي تخدمها الفدرالية (مفهوم مشترك لليبرالية والاتحادية على حدّ سواء، لكن مع فروق دقيقة مختلفة)، في تنظيم توزيع حيّزي للسلطة. الأمر المميّز بالنسبة للحكم الذاتي هو عدم تناسقه، أي أنه ينطبق على منطقة أو أكثر من الدولة، وهو لا يشكّل جزءًا من توزيع موحّد للسلطة. إذا كانت مجموعة أقلية إثنية مركّزة في جزء من الدولة، فيمكن استخدام الحكم الذاتي لموازنة مصالح مجموعة الأقليّة الإثنية مع المصالح العامة. إذا كان السكّان أكثر تنوّعًا لكنّ المجتمعات مركزة أيضًا في مواقع جغرافية، فعندها يمكن للفدرالية أن توفّر أهداف الحكم الذاتيّ على جبهة أوسع (باستثناء أنّ الحكومة المركزية قد تميل أكثر إلى إعطاء سلطة أكبر لأقليّة معينة في منطقة تتمتّع بالحكم الذاتي أكثر ممّا يمكن منحه بشكل عام). وتثير الفدرالية، أيضًا، بشكل حادّ، السؤال حول دور المناطق على المستوى القطري ("الحكم المشترك"). عادة ما تطالب المجموعات، التي تفضل عدم التدخّل في شؤونها، بالحكم الذاتيّ، ويتمّ منحه بسهولة إذا كان اهتمام الحكم المركزي في تلك المنطقة محدودًا؛ يبدو أنّ الحكم الذاتي لجزر الآلاند في فنلندا ملائم لهذا الوضع بشكل مثاليّ. إنّ الحكم الذاتيّ هو أفضل بالنسبة لتوزيع السلطة، وبالتالي، فإنه أفضل بالنسبة لفصل السلطات، لكن الفدرالية هي أفضل بالنسبة لمشاركة السلطة.

 

يمكن للحكم الذاتي والفدرالية أن يعملا بشكل جيّد حتى يصبح الأساس الإثني للحكم الذاتي أو الفدرالية مُهيمنًا. توفّر الهند مثالاً جيدًا على ذلك. يقول بعض المعلّقين إنّ الهند بقيت قائمة كدولة لأنّها تستخدم الأداة الفدرالية بغية التوفيق بين مجتمعاتها المتعدّدة والمتنوّعة. التنوّع الرئيس هو اللغة. ويتمّ استخدام اللغة المحليّة، تحت النظام الفدرالي، في الإدارة الإقليمية، لكن تستخدم اللغة الإنجليزية كلغة الربط. كانت الهند قادرة على قبول التنوّع اللغوي كقاعدة للفدرالية لأنّها عملت، في جزئها الأكبر، ضمن قيم وثقافة وطنية مشتركة. لكن، تصبح الفدرالية إشكالية مع تعاظم الفروق الثقافية، وهي ذات الفروق الثقافية التي تريد المنطقة رعايتها. تقع كشمير، إلى حدّ كبير، ضمن هذه الفئة مع هيمنة الثقافة الإسلامية فيها، لكنها كانت قادرة على الوصول إلى درجة عالية من الحكم الذاتي لأسباب تاريخية خاصة بها. وتشكل المجتمعات في شمال شرق البلاد إشكالية أكبر، وهي لم تندمج، على نحو جيد، في هند ما قبل الاستقلال، وهي تشعر أنها أقل تعلقا من الناحية العاطفية بفكرة الهند. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ التنازل عن عناصر متينة من الحكم الذاتيّ الإثنيّ/ الفدرالية الإثنية سيعرّض مفهوم المواطنة الوطنية للخطر، كما هو الحال في كشمير حيث يتمتّع غير الكشميريين بحقوق أقلّ من أبناء البلاد. ويكشف هذا، أيضًا، عن حساسية المجموعات التي تحوّلت إلى أقليات في المنطقة، كما يمثّل ذلك المسلمون التاميليون في مناطق الحكم الذاتي التي يطالب بها نمور التاميل. يمكن حلّ هذه المعضلة الاتحادية من خلال أداة ليبرالية – حقوق متساوية للجميع – وهكذا يتمّ توفير القاعدة لصيغة جديدة من التوازن.

 

مثال آخر لتوضيح هذا التفاعل بين الليبرالية/ حكم الأكثرية وبين التوجّه الاتحادي يأتي من فعاليّة وحدود التعدّدية القانونية، التي تضمن للمجتمعات الدينية أو الثقافية تطبيق قوانينها الشخصية الخاصة بها، الأمر الذي يؤدّي إلى المحافظة على قدر كبير من ثقافتها (أداة اتحادية عثمانية مشهورة). إعتُبر هذا النّوع من التعدّدية القانونية أنّه لا يتوافق مع مشروع بناء الأمّة الذي التزم به العديد من القادة في أفريقيا وآسيا. لذلك، باشرت العديد من الدول في برنامج توحيد القوانين الشخصية وتقنينها. وقد واجهت هذه الدول مشاكل تقنية وسياسية، وفي النهاية فإنه حتى الدول التي لم تكن ملتزمة بالتوجه الاتحادي قبلت بقدر معيّن من التنوّع. لكن، لم يكن من السهل ملاءمة القوانين الشخصية مع الليبرالية ومع مشاريع بناء الأمة. واحتوت تعدّدية القوانين الشخصية، بشكل ضمنيّ، أشكالاً من الوضعيّة المتدنّية للمرأة والمجموعات الأخرى، والتي لم تتوافق مع القيم الدستورية، مما أدّى إلى خلق فئات مختلفة من المواطنين. كذلك نزعت القوانين الشخصية لعرقلة أشكال معيّنة من العلاقات بين المجتمعات وإلى تأبيد قدر من التجزئة الذي لا يتماشى مع بناء الأمة، في النواحي الاجتماعية والعائلية. تناولت جنوب إفريقيا بعضًا من هذه المعضلات من خلال حكم دستوريّ تكون بموجبه القوانين الشخصية خاضعةً لنظام حقوق الإنسان. واستكشف الآخرون إمكانيات الخروج، أي أنّه يمكن للأشخاص الذين لا يشعرون بالارتياح إزاء التقييدات التي يواجهونها، بموجب النظام المشترك، الانسحاب من النظام. إنّ هذا الأمر يكون مقبولاً إذا كان من الممكن حصر هذا الانسحاب في القانون الذي يؤدّي إلى المشكلة، بدلاً من أن يكون انسحابًا كاملاً يقترب كثيرًا من أن يكون طردًا أو حرمانًا من بيئة المرء الثقافيّة. يؤيّد البعض نوعًا آخر من الحيّز، ربّما نظام قانونيّ، يمكن بموجبه أن يتزوّج الناس أو أن يجروا أنواعًا أخرى من العلاقات العائليّة عبر الفواصل الإثنية.

 

توضّح هذه الأمثلة أنّ ليس بالضرورة أن تكون هناك اختلافات حادّة وغير قابلة للتوفيق بين التوجّه الاتحادي من جهة، وبين الليبرالية/ حكم الأكثرية، من جهة أخرى. كذلك فإن هذه الأمثلة تبيّن أنّ بعض أدوات التوجّه الاتحادي مقبولة على نحو أكبر  (مثلاً: الاشتمال والنسبية) من أدوات أخرى (مثلاً: الحرية التّامة في تغيير دين الآخرين)؛ وأنّ بعضها أسهل من بعضها الآخر (مثلاً: التمثيل التشريعيّ المنفصل أسهل من مشاركة السّلطة الإلزامية في الهيئة التنفيذية). قد تكون، ضمن الدولة، مجتمعات تختلف في أفضليّاتها بين التوجّهين، ويجب التوصّل إلى حلّ وسط بينها. وقد جدت بعض الدول فائدةً في استخدام بعض من أدوات التوجّه الاتحادي أثناء فترة الانتقال من مرحلة النزاع إلى السلام، لكن ليس على المدى البعيد، كما هي الحال في جنوب إفريقيا. إن هذه الخيارات والتوازنات يجب أن تتخذ من قبل الأشخاص ذوي الصلة، والحسّاسين لذلك السّياق. وعليهم، أيضًا، إبداء بعض التفهم للديناميكيات العرقية، وعدم خلط مطالب النخب ووضعياتها بالعواطف المشتركة لأفراد مجتمعاتهم. إذا تُرك الشعب دون أن يتدخل به أحد، فإنه يستطيع تخطّي الفواصل الإثنية، التي عادةً ما يقيمها المبادرون الإثنيّون. ويجب، بشكل خاصّ، ألا يكون هناك أيّ تنازل عن المبادئ الأساسية المتعلّقة بالعدالة الاجتماعية للجميع.           

 

 



بروفيسور ياش غاي أستاذ في القانون العام، جامعة هونغ كونغ.[1]

 

 

  

ملفات متعلقة: