ورقة تلخيص حول تقرير تيركل – الجزء II

لجنة تيركل أرادت تزويد الجيش بختم الشرعية لآليات التحقيق والفحص

 

في حزيران 2010 أقامت الحكومة الإسرائيلية لجنة عامّة برئاسة قاضي المحكمة العليا المتقاعد، يعقوب تيركل، لفحص أحداث أسطول الحرية بتاريخ 31 أيار 2010، حيث سيطر سلاح البحرية الإسرائيلي على سفن الإغاثة الإنسانية التي كانت في طريقها إلى قطاع غزة. وخلال هذه الأحداث قُتل عشرة مواطنين أتراك وأصيب كثيرون بجراح.([1]) وفي تاريخ 6 شباط 2013 نُشر الجزء الثاني من تقرير لجنة تيركل، الذي تناول مسألة ملاءمة آليّات الفحص والتحقيق في إسرائيل لشكاوي وادّعاءات تتعلق بانتهاك قواعد الحرب مع واجبات دولة إسرائيل حسب قواعد القانون الدولي.

 

 ورغم قرار اللجنة العام المستهجن بأن "آليات الفحص والتحقيق في الشكاوى والادعاءات التي تتعلق بانتهاكات قواعد الحرب القائمة في إسرائيل تنسجم، بشكل عام، مع واجبات دولة إسرائيل حسب قواعد القانون الدولي"، فقد أوصت اللجنة بإجراء تحسينات كبيرة في آليات الفحص والتحقيق، وفي بعض المجالات أوصت بإجراء إصلاحات وتعديلات جوهرية في السياسة المألوفة، الأمر الذي يشهد على إخفاقات خطيرة في آليات التحقيق وتقصيرات في التحقيق في شكاوى بسبب انتهاك قواعد الحرب. هذه التوصيات، إذا ما جرى تطبيقها، ستحسّن بصورة كبيرة استقلالية هيئات التحقيق، نجاعة التحقيقات، سرعتها وشفافيتها؛ وبذلك تُشدد المسؤولية (Accountability) في صفوف قوات الأمن، الأمر الذي من شأنه أن يُسهم كثيرًا في تعزيز سيادة القانون  والدفاع عن حقوق الإنسان وبشكل خاص إقامة العدل تجاه ضحايا ومتضرّري قوات الأمن. ومع ذلك، أبقت اللجنة مجالاً أساسيًا واحدًا في حالة غموض، وتهرّبت من تحديد تعليمات واضحة خاصة به من شأنها أن تصلح الإخفاق في آليات التحقيق، والمقصود هنا كلّ ما يتعلق بالتحقيق في الشبهات حول تنفيذ جرائم حرب خلال المواجهة المسلّحة.

 

وكما هو معلوم، فإن توسيع تفويض لجنة التحقيق، بحيث يشمل فحص ملاءمة آليات التحقيق في الجيش مع المعايير الدولية، قد جرى وبدرجة كبيرة نتيجة للنقد الشديد الذي وُجّه ضدّ إسرائيل في أعقاب نشر تقرير بعثة الفحص التابعة للأمم المتحدة برئاسة البروفسور ريتشارد جولدستون، والتي كان قد عيّنها مجلس حقوق الإنسان والقانون الإنساني للتحقيق في "جميع انتهاكات قواعد حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي" في سياق الهجوم العسكري على قطاع غزة، المسمى عملية "الرصاص المصبوب" في شتاء 2009-2008. ([2])

 

وكما هو معروف، فخلال وفي أعقاب عملية "الرصاص المصبوب" كانت منظمات حقوق إنسان فلسطينية وإسرائيلية ودولية، وهيئات مختلفة في الأمم المتحدة مثل مجلس حقوق الإنسان والجمعية العمومية ولجان حقوق الإنسان المختلفة في الأمم المتحدة، قد دعت الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني إلى التحقيق في شبهات انتهاك القانون الدولي التي كان كل طرف مسؤولاً عنها خلال الحرب. وادّعت إسرائيل أنها تحقق بنفسها في الشبهات ورفضت التعاون مع اللجنة ورفضت مطلب تشكيل لجنة تحقيق مستقلّة في شبهات انتهاك قواعد الحرب والقانون الدولي لحقوق الإنسان. وقبل أن تهدأ العاصفة التي هبّت في أعقاب تقرير جولدستون، سيطر سلاح البحرية على سفينة مرمرة فأطلقت مرّة أخرى النداءات المطالبة بإقامة لجنة تحقيق مستقلّة.. هنا، وعندما قررت الحكومة تشكيل لجنة تيركل أدرجت ضمن تفويض اللجنة مسألة فحص ملاءمة آليات التحقيق في إسرائيل لواجبات الدولة حسب القانون الدولي.

 

وبعد مضيّ ثلاث سنوات نشرت اللجنة الجزء الثاني من تقريرها، الذي يتناول موضوع التحقيقات. وبالرغم من البحث الجادّ الذي قامت به اللجنة، والإطار المعياري الشامل الذي عرضه التقرير بصدد مرجعية واجب التحقيق حسب القانون الدولي والإسرائيلي، فإن مجال التحقيق في الشكاوي بسبب الشبهات حول انتهاك قواعد الحرب بالذات ظلّ بدون تعليمات وتوجيهات ومعايير واضحة تُوجّه هيئات التحقيق في السؤال الحاسم والخطير: متى يجب على الجيش الشروع في التحقيق الجنائي في حالة وجود شبهات تتعلق بانتهاك قواعد الحرب. وقد اكتفت اللجنة بالقول المبهَم بأنه في الحالات التي تتوفر فيها شبهات حول انتهاك المحظورات المطلقة في قوانين الحرب، مثل استخدام الدرع البشري، يجب الشروع في التحقيق، ولكن فيماعدا ذلك تحدّثت بغموض ولم تفسّر.([3]) ولكي نشرح ذلك بطريقة ملموسة نورد هنا بعض الأمثلة. سنفحص الادّعاءات التي أثيرت ضد دولة إسرائيل بصدد حملة "الرصاص المصبوب" وسنُظهر كيف تحسّن توصيات اللجنة التحقيق فيها.

 

كما هو مذكور، برزت خلال عملية "الرصاص المصبوب"، وبقوة أشدّ بعدها، ادّعاءات خطيرة بشأن إدارة الحرب ومهاجمة المدنيّين.([4]) أسفرت هذه العملية العسكرية عن مقتل نحو 1500 فلسطيني وإصابة أكثر من 5000 بجروح، غالبيّتهم (الجرحى والقتلى) من المدنيين. قتل المدنيين والمسّ بهم خلال عملية "الرصاص المصبوب"، وكذلك التدمير الكامل للممتلكات، كان نتيجة مباشرة لسياسة العقوبات الجماعية التي مارستها إسرائيل ضد قطاع غزة كوسيلة لممارسة الضغط على سلطة حماس في القطاع. هذه السياسة بدأت فور الإعلان عن قطاع غزة "منطقة معادية" في شهر أيلول 2007. لقد شطب هذا الإعلان التمييز بين المواطنين والأهداف المدنية من جهة والمحاربين والأهداف العسكرية من جهة أخرى. وقد تجلى هذا الأمر بشكل واضح خلال العملية العسكرية نفسها، والتي أعلن خلالها المسؤولون والقادة العسكريون أن العملية تهدف إلى حث الوعي الجماهيري في غزة ضد حماس وضد مقاومة إسرائيل. وأعلن مسؤولون إسرائيليون رفيعو المستوى، من جملة ما صرّحوا به، أن إسرائيل لن تميّز بين المظاهر المختلفة لمنظمة حماس التي تحكم قطاع غزة، وأنها تعتبر جميع أعضاء حماس "إرهابيين" يشكلون أهدافًا شرعية للتصفية. والقادة العسكريون تحدثوا عن استراتيجية حربية قوامها إنزال "ضربات ناريّة غير تناسبيّة".([5]) عدد القتلى والجرحى الهائل الذين لم ينخرطوا في غالبيتهم في القتال، الدّمار الكبير، الشهادات الكثيرة التي نُشرت خلال العملية وبعد انتهائها والتي تصف "بنك" الأهداف الذي جرى اختياره، القوة المفرطة التي استُخدمت خلال الهجوم، وعدم اتخاذ تدابير الحيطة لحماية المدنيين، والتعليمات المتساهلة بشأن الشروع في إطلاق النيران التي أعطيت للجنود في الميدان – كلّ هذه الأمور تشهد على نوايا إلحاق الأذى بالسكان المدنيين والبنية التحتية المدنية في قطاع غزة، أو تدلّ على الأقل على عدم الاكتراث تجاه إلحاق الأضرار.  ورغم خطورة هذه الادعاءات والمطالب العديدة للتحقيق فيها، فإن هذه الادعاءات لم تخضع لأي تحقيق. واكتفى الجيش بالتحقيق في حالات فردية قليلة فقط، ظهرت فيها شبهات حول انتهاك التعليمات التي أصدرها القادة العسكريون أو انتهاك المحظورات المطلقة في قواعد الحرب (وفي هذه الحالات أيضًا لم يكن التحقيق مستقلاً)، وامتنع الجيش عن التحقيق في الادعاءات الكثيرة المذكورة أعلاه.([6]) هذا الوضع ينبع من عدّة أسباب: فقدان النيّة الصادقة والحقيقية للتحقيق في الادعاءات، تدخّل المسؤولين وتدخّل السلك السياسي في تحديد أهداف العملية العسكرية وأسلوب إدارتها.

 

لقد تطرّقت لجنة تيركل إلى عدة مواضيع ذات صلة ولكن ليس إلى جميع المواضيع. اللجنة أوصت بالمبادرة إلى سن قوانين ملائمة في كل حالة فيها نقص متعلق بالمحظورات الجنائية الدولية التي لا يتوفر ما يقابلها في القانون الجنائي الإسرائيلي وأوصت باستيعاب واضح للقواعد الدولية المتعلقة بجرائم الحرب في قانون دولة إسرائيل. كما تناولت اللجنة موضوع تضارب المصالح في وظيفة المدعي العام العسكري لكونه مسؤولاً من جهة عن الاستشارة القضائية للجيش والسلك السياسي فيما يتعلق بالعمليات العسكرية، ولكونه من جهة ثانية يرأس النيابة العسكرية.([7]) واعتبرت اللجنة حالة تضارب المصالح الواضح هذه "خوفًا ظاهريًا من التحيز" ومن أجل منع هذا الخوف أوصت اللجنة بتعزيز مكانة واستقلالية المدعي العام العسكري (التوصية رقم 8) وبأن ينظّم القانون إجراء استئناف على قرار المدعي العام العسكري أمام المستشار القضائي للحكومة (التوصية رقم 13). هذه التوصيات يجب مباركتها، ولكن لا يمكن تجاهل حقيقة أن اللجنة امتنعت عن التوصية بشكل صريح بأنه في حالات الشكاوي المتعلقة بقرارات المدعي العام العسكري أو بالحالات التي تدخّل فيها في اتخاذ القرارات، يجب إجراء هذه التحقيقات خارج إطار الجيش. كان من المفروض على اللجنة أن توصي بأن يمنع منذ البداية الوضع الذي يجري فيه التحقيق في ظل تضارب المصالح وألاّ تكتفي باستئناف على قرار كهذا يقدم بعد صدور القرار أو لا يقدّم إطلاقًا، وإذا ما قُدّم يكون مرتبطًا باعتبارات المستشار القضائي للحكومة. وبخصوص تدخل السلك المدني ومسؤوليته أوصت اللجنة بتحديد تعليمات في القانون تفرض على القادة العسكريين والمسؤولين المدنيين المسؤولية الجنائية المباشرة بسبب المخالفات التي ارتكبها العاملون تحت إمرتهم، حين لا يتخذون كل التدابير المعقولة لمنع تنفيذ المخالفات أو لا يعملون من أجل تقديم المسؤولين للمحاكمة عندما يعلمون عن هذه المخالفات بعد وقوع الحدث. وبالرغم من إيجابية هذه التوصيات فإنها لا تقدم الإجابة على مسألة التحقيق مع القادة العسكريين والمسؤولين المدنيين بصدد القرارات التي اتخذوها. وبشكل خاص فإن المسؤول عن هذه التحقيقات هو المدعي العام العسكري الذي يوفر للقادة الاستشارة ويعطي الدعم القانوني لقراراتهم. هنا أيضًا كان لزامًا على اللجنة أن توصي بشكل واضح بأن يجري فحص الشكاوي ضد قرارات القادة والسلك المدني التي كان للمدعي العسكري العام دخل فيها، من قبل جسم أو هيئة من خارج الجيش والحكومة. هذا الأمر يقودنا إلى أقوال اللجنة في فصل التوصيات بشأن مسؤولية السلك السياسي. وحسب هذه الأقوال فإن واجب الشروع في التحقيق لا يعني التحقيق الجنائي وأن طريقة التحقيقات التي تجريها لجان التحقيق والفحص المتعارف عليها في إسرائيل تتلاءم مع واجباتها، حسب القانون الدولي، لإجراء التحقيق في الأعمال والقرارات أو التقصيرات وعدم القيام بالواجب (التوصية رقم 17). هذه الأقوال تناقض أقوال اللجنة في مستهلّ عرض الإطار القانوني بخصوص واجب التحقيق، وحسب هذه الأقوال فإن التحقيق الفعّال والمؤثر هو التحقيق القادر على تحديد هوية المسؤولين وتنفيذ الحكم بحقهم.([8]) وأن حكم السلك المدني مثل حكم أي إنسان حين تبرز شبهات بأن مسؤولين كبار في السلطة التنفيذية انتهكوا القانون.([9]) من الممكن أن تكون طريقة التحقيق من قبل لجان التحقيق متلائمة مع مطالب القانون الدولي ولكن ذلك يكون عندما تحدد هوية المسؤولين الحكم بحقهم. إضافة إلى ذلك فالتحقيق الذي تجريه لجنة التحقيق لا يستطيع أن يستبدل التحقيق الجنائي عندما يتطلب القانون إجراء مثل هذا التحقيق، حتى لو كان المشبوه جنديًا أو قائدًا أو مستشارًا قضائيًا للحكومة أو وزيرًا أو رئيس حكومة. كما تجاهلت اللجنة أيضًا حقيقة أن تشكيل لجنة التحقيق متعلق باعتبارات السلطة التنفيذية وهو ليس فرضًا مثبتًا في القانون، وهذا هو واقع الحال بالنسبة إلى تطبيق استنتاجات لجنة كهذه. وهنا أيضًا لا تقدم توصيات اللجنة جوابًا على الحالات التي من الضروري أن يجري فيها التحقيق في قرارات السلك السياسي والقيادي وكل الذين لهم دخل في اتخاذ هذه القرارات، كما حدث بعد عملية "الرصاص المصبوب". كان باستطاعة اللجنة أن توصي بتعديل القانون بشكل يُلزم بإقامة لجنة تحقيق حين تثار ادعاءات ضد قرارات السلطة التنفيذية وحين تكون هيئات التحقيق القائمة نفسها متورطة في اتخاذ هذه القرارات. وهكذا فإن التحقيق الذي تقوم به لن يكون مستقلاً أو غير مرتبط بأية جهة.

 

مثال آخر هو امتناع الجيش عن التحقيق في شكاوى وشبهات حول قتل وجرح مدنيين كثيرين جرّاء مهاجمة المباني السكنية في غزة. عشرات الشكاوي التي قُدّمت بهذا الشأن بعد عملية "الرصاص المصبوب" لم يجر التحقيق فيها. ولم يفسّر الجيش قراره بعدم إجراء التحقيق في هذه الشكاوي.([10]) هكذا كان الحال أيضًا في قضية عدم إجراء التحقيق في الهجوم على عائلة الدلو في عملية "عامود السحاب".([11]) ورغم أن اللجنة تناولت واجب التحقيق في الشكاوي بسبب انتهاكات قواعد الحرب ضمن إطار المواجهة المسلحة، إلاّ أنها امتنعت عن التوضيح متى يكون واجب للتحقيق في حالات قتل المدنيين سواء نتيجة لهجوم لا يميّز بين المواطنين والمقاتلين أو جرّاء هجوم لا تناسبيّ أدى إلى أضرار مفرطة. واكتفت اللجنة بقول عام مفاده أن الأذى العرضيّ الذي يؤدّي إلى موت مواطن مدنيّ أو إصابته بجروح خلال مواجهة مسلّحة لا يؤسّس بالضرورة شبهات مباشرة حول عمل جنائي.([12]) هذا القرار لا يتضمن أي تجديد فهذه عمليًا هي الحجة التي استخدمها الجيش لتبرير عدم التحقيق في الشبهات حول انتهاك قواعد الحرب وتنفيذ جرائم الحرب خلال سنوات عديدة.([13]) هكذا كان الأمر في حادث قتل صلاح شحادة عام 2000 وقتل عائلات بكاملها في غزة خلال عملية "الرصاص المصبوب" مثل عائلات السمّوني، الداية، صالحة، أبو عيشة، ومثل سعيد صيام وحالات كثيرة أخرى خلال عمليتي "الرصاص المصبوب" و"عامود السحاب". صحيح أن اللجنة ذكرت في هذا الخصوص أن السياق الذي تحدث فيه الوفاة أو الإصابة هو الذي يحسم ما إذا كان هناك شبهات معقولة حول تنفيذ جريمة حرب أم لا،([14]) ولكن هذه الإضافة لا تتضمن تعليمات واضحة تذكر متى يَثبُت وجود شبهات تستدعي الشروع في التحقيق. كان لزامًا على اللجنة أن تصبّ مضمونًا في قولها هذا، ولو بخطوط موجِّهة فقط، وأن توضح في أية ظروف تكون هناك شبهات حول سلوك ممنوع خلال المواجهة المسلّحة يستدعي الشروع في التحقيق.

 

وحسب قواعد الحرب والقتال، حين تثار ادعاءات بخصوص مهاجمة المباني السكنية المأهولة والمسّ الخطير بالمدنيين الذين لا يوجد قربهم مقاتلون أو مخازن أسلحة فإن ذلك يُلزم بفحص قانونية الهجوم وأسلوب تنفيذه ونوع الأسلحة والتوقيت ووسائل الحيطة التي اتخذت لمنع المسّ بالمواطنين الأبرياء. كذلك هو الحال بالنسبة إلى الادعاءات ضد الهجمات التي لا تفرّق بين المقاتلين والمدنيين والادعاءات بخصوص استخدام قوة لاتناسبية والتسبب في أضرار تزيد عن الفائدة العسكرية. في الالتماس إلى محكمة العدل العليا بصدد موضوع التصفيات، قررت المحكمة العليا، خلال تطرقها إلى قانونية التصفيات، أن التعرّض للمقاتلين أو المواطنين المتورطين في القتال مسموح شريطة أن يكون المسّ بهم تناسبيًا وألاّ تتوفر وسيلة أقلّ أذىً وألاّ يجري المسّ بالمواطنين الأبرياء القريبين منهم.([15]) وفي سياق الحديث تناولت المحكمة العليا مسألة واجب التحقيق بعد وقوع الحدث في عمليات التصفية، فانطلقت من الافتراض أن مجرّد المسّ بالمواطنين الأبرياء الذين لم يأخذوا أيّ دور مباشر في العمليات القتالية يُلزم بالتحقيق في العملية.([16]) لاحظوا إذن أن قواعد القانون الدولي وكذلك قرارات المحكمة العليا تكرر الامتحان نفسه وتظهر أن هناك ضرورة للتحقيق في الشبهات حول عدم قانونية الهجمات وأنه لا يجوز الافتراض مسبقًا أنها قانونية فقط بسبب الحقيقة القائلة بأن قواعد الحرب تقرّ بإمكانية أن يكون المسّ العرضيّ بالمواطنين قانونيًا؛ فحسب هذه القواعد لا يُعتبر كل مسّ عرضيّ قانونيًا، وهناك جرائم حرب كثيرة تشكّل فيها نتائج الهجمات الخطيرة أساسًا من أسس الجريمة.([17])

 

لقد أضاعت اللجنة الفرصة التي كانت أمامها لتطرح مقاييس ومعايير واضحة توجّه الجيش في فحص الشكاوي بصدد انتهاك قواعد الحرب في حالة المواجهة المسلّحة ولكي تجيب لمرة واحدة وإلى الأبد على السؤال: متى تثار الشبهات التي تبرّر الشروع في التحقيق في الأحداث التي وقعت خلال المواجهة المسلّحة حين لا يدور الحديث عن انتهاك أحد المحظورات المطلقة. ونذكّر بأن المحكمة العليا أيضًا امتنعت عن تقديم جواب واضح في هذا الشأن.([18]) ونوضح هنا أن الحديث لا يدور حول سؤال نظريّ وبشكل خاص على ضوء موقف الدولة القائل بأن قتل المدنيين يشكّل جريمة حرب فقط إذا جرى تنفيذه عن قصد ووعي، وبناء على ذلك فطالما أن المسّ بالمدنيين لا "يرتقي" إلى مستوى جريمة الحرب، كما هو مذكور، فإنه لا يستوجب التحقيق في الحادث.([19]) في القانون الدولي الإنساني والجنائي جرائم كثيرة معروفة والعنصر النفسي المطلوب فيها أقلّ من القصد، وجرائم أخرى يشكّل فيها الضرر اللاتناسبي بحدّ ذاته مركّبًا من مركّبات الجريمة.([20]) لذلك لا حاجة بالذات لوجود العنصر النفسي المتمثل بالقصد أو التعمّد من أجل الشروع في التحقيق، إذ إن وجود الضرر اللاتناسبيّ في حدّ ذاته يثير الشك بأنه جرى تنفيذ جريمة، ولذلك يُلزم هذا الأمر بالتحقيق في الحادث.

 

يبدو أنه رغم أن لجنة تيركل أرادت تزويد الجيش بختم الشرعية لآليات التحقيق والفحص، إلاّ أنها أبقت الموضوع الخلافيّ، الخاصّ بالتحقيق في الشبهات حول جرائم الحرب خلال المواجهة المسلّحة، مفتوحًا وبدون حلّ. وبالتأكيد أبدت اللجنة في هذا المجال جرأة أكثر من تلك التي أبدتها المحكمة العليا وقررت بشكل واضح لا لبسَ فيه أن التحقيق المتعلق بالعمليات لم يخصّص لضرورات القرار بشأن الشروع في التحقيق.([21]) وأوصت اللجنة بإقامة جهاز لضروة إجراء تقييم حقيقي وعلى أساس معطياته يقرر المدعي العام هل هناك ضرورة لبدء التحقيق في الحادث (التوصية رقم5). ولكن هذه التوصية، إذا ما نُفذت، فمن شأنها أن تحسّن نجاعة وصدقيّة التحقيقات في حالات التحقيق في الشكاوي المتعلقة بالاحداث التي جرت في الأوضاع التي تنطبق عليها قواعد فرض القانون وليس في أوضاع المواجهة المسلّحة. إذ يجب حسب توصيات اللجنة، وعند قبول تسلّم التقرير الأولي، تصنيف السياق القانوني لكل حادث، أي هل يدور الحديث عن حادث حربي تنطبق عليه قواعد المواجهة المسلّحة أم عن حادث آخر تنطبق عليه قواعد تطبيق القانون (التوصية رقم4). التقارير التي تصنَّف باعتبارها تنطبق عليها قواعد فرض القانون ستحظى، في حالة تطبيق توصيات اللجنة، بتحقيق جادّ وسيحصل الضحايا على معلومات عن الإجراء الجنائي (التوصية رقم 11). وفي مقابل ذلك فإن الأحداث التي تسري عليها قواعد المواجهة المسلّحة ستظلّ بدون أيّ تحقيق والضحايا بدون تفسير وبدون عدالة.

 

 

 

 

 

 

 



[1]   في شهر كانون ثانٍ 2011 نشرت اللجنة الجزء الأول من تقريرها، وفيه استنتاجات مفادها أن جنود الأسطول تصرّفوا بشكل معقول، وأن إسرائيل عملت وفق القانون الدولي، وأن نشيطي IHH هم المذنبون في العنف الخطير على متن مرمرة، وأن فرض الحصار البحري على قطاع غزة قد جرى وفق القانون الدولي وتعليمات معاهدة سان ريمو المتعلقة بفرض الحصار البحري. هذه النتائج مختلفة عن نتائج واستنتاجات لجان الامم المختلفة التي جرى تعيينها لفحص الحادث. اللجنة التي عينها مجلس حقوق الإنسان كانت قد قررت في أيلول 2010 أن العملية الإسرائيلية "شكلت خرقًا صارخًا وفظًا لحقوق الإنسان والقانون الدولي"، وأن "الأدلّة تمكّن من تقديم إسرائيل للمحاكمة بالتهم التالية: القتل المتعمّد، التنكيل والاعتداء بالضرب والتسبب بالمعاناة والأذى بشكل متعمّد". اللجنة التي عيّنها الأمين العام للامم المتحدة، برئاسة بالمر، قرّرت في تقريرها في أيلول 2010 أن الحصار المفروض على قطاع غزة قانوني، ولكن إسرائيل استخدمت قوة مبالغًا فيها، ولذلك يوصي بأن تعرب عن أسفها أمام تركيا وأن تدفع تعويضات لعائلات القتلى. ونشر خمسة خبراء في الأمم المتحدة نقدًا شديدًا ضد القرار الوارد في التقرير بأن الحصار المفروض على قطاع غزة هو قانونيّ، وحدّدوا بشكل لا لبس فيه أن الحصار لا يزال يشكل خرقًا للقانون الدولي. "كيف يمكن أن يكون حصار إسرائيل لقطاع غزة قانونيًا؟ - خبراء مستقلون في الأمم المتحدة "حول تقرير بالمر"، انظروا الرابط  

http://www.ohchr.org/en/NewsEvents/Pages/DisplayNews.aspx?NewsID=11363&LangID=E

 

[2]   انظروا مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، "تقرير بعثة تقصّي الحقائق التابعة للأمم المتحدة حول النزاع في غزة" (الجلسة الثانية عشرة، وثائق الأمم المتحدة، A/HRC/12/48.

[3]   ص 91-93  من تقرير اللجنة.

[4]   انظروا تقرير منظمات حقوق الإنسان في إسرائيل إلى لجنة جولدستون، على موقع عدالة الإلكتروني: http://www.adalah.org/newsletter/eng/jun09/goldstone%20report_and_appendix[1].pdf

[5]   انظروا التقرير أعلاه والمستندات هناك.

[6]   انظروا تقارير عدالة إلى لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة.

[7]   انظروا تقرير لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة، في شهر أيلول 2010، الفقرات 64-63 ، على الرابط التالي: http://www2.ohchr.org/english/bodies/hrcouncil/docs/15session/A.HRC.15.50_AEV.pdf

[8]   انظروا ص 105-101 في التقرير.

[9]   انظروا ص 263 في التقرير.

[10]   انظروا تقارير عدالة إلى بعثة الخبراء التابعة للأمم المتحدة بخصوص التحقيق في الشكاوي التي قدمت بعد عملية "الرصاص المصبوب"، وكذلك الوثيقة التي قدمها مركز عدالة إلى لجنة تيركل في موقع عدالة الإلكتروني.

[11] انظروا موقع النيابة العامة "فحص ادعاءات بشأن انتهاكات القانون أثناء عملية "عامود السحاب" – حتلنة (11 نيسان 2013)، على الرابط التالي:  http://www.law.idf.il/SIP_STORAGE/files/3/1363.pdf

[12]   ص 92 في تقرير اللجنة.

[13]   انظروا محكمة العدل العليا 9594/03 بتسِيلم ضد المدعي العام العسكري ، قرار حكم صادر في تاريخ 21.8.2011.

[14]   ص 93 في تقرير اللجنة.

[15]   محكمة العدل العليا 769/02 اللجنة الشعبية ضد التعذيب، ضد دولة إسرائيل ، صدر في تاريخ 14.12.2006

[16]   نفس المصدر ، الفقرة 54.

[17]   انظروا التفصيل في "هعرات بسيكاه: واجب الدولة في التحقيق في الشبهات حول الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي خلال العمليتين العسكريتين – "قوس في السحاب" و "أيام الردّ" في قطاع غزة عام 2004" نُشر في مجلة عدالة، شباط 2012.

[18]   انظروا هعرات بسيكا، أعلاه.

[19]   البند 89 في رد الدولة في محكمة العدل العليا بتسيلم ضد المدعي العام العسكري.

[20]   لتحليل موقف الدولة والوضع القانوني الملزِم انظروا هعرات بسيكاه، أعلاه.

[21]   انظروا محكمة العدل العليا بتسيلم ضد المدعي العام العسكري، الفقرة 12 في قرار الحكم.