"النيّة في التسوية": المحكمة العُليا في إسرائيل وتطبيع الطوارئ

جون رينولدز | مجلة عدةال الإلكترونيّة، العدد 104، أيار 2013
احتلَّ نظام الطوارئ، على نحوٍ نموذجيّ، حيّزًا مركزيًّا في النظام القانونيّ للمُستعمَرة

 

جون رينولدز | مجلة عدةال الإلكترونيّة، العدد 104، أيار 2013

إحدى أولى القضايا التي طُرحت أمام المحكمة العُليا في إسرائيل عام 1948، جاءت كاستئناف على سريان أنظمة الدفاع (في حالات الطوارئ) التي سنتها سلطات الانتداب البريطانيّة من عام 1945، في الجهاز القضائي الخاصّ بدولة إسرائيل الناشئة. تمّ التعبير عن رأيِ الأقليّة في القضيّة من خلال القاضي شالوم كسان، الذي حاجَجَ بأنّ الأنظمة (التي تمنحُ صلاحيات واسعة للسُّلطات التنفيذيّة والعسكريّة في أوقات الطوارئ) كانت غير ديمقراطيّة وغير قابلة للتطبيق. "لا يسَعُني إصدارُ أو تمريرُ حُكمٍ بموجب أنظمة الدفاع التي لا تزالُ قائمة في كتاب القوانين. فإنني أعتقدُ أنّ هذه القوانين لم تعد نافذةً أبدًا، ولذا يتعيّن ألاّ يُطلَبَ منّي السلوكُ بما يُخالف ضميري، فقط لأنّ الحكومة الحاليّة لم تلغ تلك القوانين بشكلٍ رسميّ، ورغم أنّ أعضاءَها قد صرّحوا بعدم قانونيّتها مباشرة بعد ما جرى تمريرُها... إذا كانت المحاكم التابعة للانتداب البريطانيّ لم تبطل هذه القوانين من كتاب القوانين، فإنّ هذه المحكمة مجبرة بفعل ذلك وبإلغائها بشكلٍ تامّ." [1]أمّا قرارُ الأغلبيّة الصادر عن المحكمة، فرغم أنّه يعبّر عن مخاوف شبيهة بشأن طبيعة أنظمة الطوارئ، إلا أنّه اعتبرَ أنّ السُّلطة القضائيّة "يجب أن تقبل بالأنظمة كما هي، أي بكونها أنظمةٌ قانونيّة سارية المفعول". مع ذلك، كانت تخلل قرار الحكم افتراضٍ صريح بأنّ الحكومة ستُبطِلُ الأنظمة في الوقت المناسب خلال.

في الكنيست طرحُت مُقترَحاتٍ لإلغاء الأنظمة (أو استبدالها بتشريعٍ دائم) في العام 1949، وفي عدّة مناسبات خلال سنوات الخمسين. إنّ الأصوات الناقدة الصادرة عن قضاةٍ يهودٍ-إسرائيليّين، وشخصيّات تشريعيّة ودينيّة، وصفَت الأنظمة، مرة تلو المرة، بالكولونياليّة والفاشيّة. معارضة أنظمة الطوارئ تطرقت إلى عددٍ قليلٍ من قضايا، التي حظيت باهتمام واسع، تم فيها اعتقال أعضاء في مجموعات شبه عسكرية يهودية باعتقال إداريّ. مع ذلك، تجدرُ الإشارة إلى أنّ الأنظمة أصبحت الأساس القانوني للحكم العسكري، الذي فرض على المناطق العربيّة الفلسطينيّة في داخل إسرائيل. كلما خف التهديد بالقيام بهجَمات يهوديّة ضدّ الدولة، برز الجانب العنصري في أنظمة الطوارئ عبر استخدامها بشكلٍ حصريٍّ ضدّ العرب. وقد استخدمت أنظمة الطوارئ ضد الفلسطينيّون من مواطني إسرائيل، الذين عاشوا تحت الحُكم العسكريّ حتّى عام 1966، والسكّان الفلسطينيّون في المناطق المحتلّة منذ عام 1967 حتّى اليوم. وهكذا، تمّ الحفاظ على الأنظمة البريطانيّة في النظام القانوني الإسرائيلي طوال هذه المدّة، حتّى أنها باتت مُتداخلة مع الإيديولوجيا الإثنيّة-الدينيّة للدولة. لا تزال هذه الأنظمة، حتّى يومنا هذا، تواصل تعزيز سياسة الأمْن بشكلٍ عُنصريٍّ للغاية ضدّ الفلسطينيّين.    

تُشكّل الأنظمة الانتدابيّة عنصرًا واحدًا فحسب من نظام الطوارئ القانونيّ في إسرائيل الذي يتميّز بكبر حجمه وبتعدّد جوانبه. في منطقةٌ يبرزُ فيها التطبيق طويل المدى لقانون الطوارئ كأساس قانوني للحكم المتسلط (الجزائر 1992-2011، مصر 1981-2012، سوريا 1963-2011)، تُعتبر إسرائيل النموذج الأمثل لـ"حالة الطوارئ الدائمة". بالإضافة إلى استبقاء قوانين الطوارئ من فترة الانتداب البريطانيّ، تمّ إعلانُ حالة طوارئ رسميّة (يعتمدُ عليها بعضُ – ولكن ليس كلّ – عناصر نظام تشريع الطوارئ في إسرائيل) بعدَ أيامٍ من قيام الدولة، حيث استمرّ سريانُ حالة الطوارئ دون انقطاعٍ منذ 19 أيّار 1948؛ أي منذ خمسٍ وستّين سنةً متواصلة. منذ أكثر من ستّة عقودٍ على الإذعان القضائي لفرضِ أنظمة الطوارئ البريطانيّة، كانت حالة الطوارئ المستديمة هذه، بحدّ ذاتها، موضوعَ قرارٍ صدرَ عن المحكمة العُليا. قبل طرح تلك القضيّة، قد يكون من المُفيد تقديمُ صورة عامّةٍ مُوجَزة حول هيكلية ما أشير إليه بمصطلح "شرعيّات الطوارئ" الإسرائيلية.

شرعيّات الطوارئ الإسرائيليّة

يشملُ النظام القانونيُّ الإسرائيليّ عدّة آليّاتٍ خاصّة بقانون الطوارئ، تتداخل فيما بينها مع العِلم أنّها مُستقلّة بعضها عن بعض. والنتيجة هي وضعُ قانونيّ مُعقد ومتشابك ومليء بالتناقضات الداخلية. بخِلاف تصوّر النظرة التي ترى بهذا الوضع  بمثابة تراكمٍ غير مقصودٍ لردودِ فعلٍ ضروريّةٍ على تهديدات عينية، وأنه تمّ سنُّها خلال فتراتٍ عينيّة، ورغم ذلك، ففي الإمكان فهمها بشكلٍ أوضَح كوسيلةِ حُكمٍ مُشترَكة يُوفّر غموضها البنيويّ مرونةً مُريحة. [2] 

 

 تتّخذُ صلاحيات الطوارئ في إسرائيل ثلاث صيَغٍ قانونيّةٍ مبدئيّة. أولاً، تبقى أنظمة الدفاع الانتدابيّة في حالة الطوارئ، كما سبقت الإشارة، ضمنَ سجلّ قوانين الأرض بعد فترةٍ طويلةٍ من رحيل واضعيها الأصليّين البريطانيّين. رغمَ أنّ هذه الأنظمة تبقى مؤطَّرة ضمن نظام طوارئٍ كولونياليّ، فإنّ تطبيقها اللاحق من قبَل إسرائيل لم يكن مَنوطًا بإعلان حالة الطوارئ. فإسرائيل نفسها قامت بإنشاءِ قاعدتيْن إضافيّتيْن في القانون لاتّخاذ تدابيرَ استثنائيّة. أنظمة الطوارئ الإداريّة هي أنظمة ثانويّة يتمّ سنُّها من قبَل مسؤولين تنفيذيّين بالاعتمادِ على حالة طوارئ مُعلَنة. يتضمّن تشريع الطوارئ الدستوريّ قوانينَ أوليّة تُمرّرُها الكنيست، وقد تكون مشروطةً بوجود حالة طوارئ مُعلَنة، أو، بدلاً من ذلك، يُمكن أن تتمّ صياغتُها خطيًّا لتُطبَّق بصورةٍ مُستقلّة. [3] تُركّز المقالة الحاليّة على حالة الطوارئ الأساسيّة التي تمّ تحدّيها أمامَ المحكمة العُليا.

 

تماشيًا مع المادّة 9 من مرسوم القانون والإدارة لعام 1948 (أوّل تشريعٍ يسنّهُ مجلسُ الدولة المؤقّت في إسرائيل)، تمّ الإعلانُ عن أنّ الدولةَ قد دخلت، رسميًّا، في حالةِ طوارئ مؤقّتة-غير مُحدّدة منذ بدايتها. بعد ما يزيد عن أربعين عامًا من جعل حالة الطوارئِ وضعًا راهنًا، تمّ إدخالُ تعديلٍ إجرائيٍّ بسيطٍ على الإطار القانونيّ النافذ، حيث تمّ منحُ الإطارِ المذكورِ سُلطةَ الإعلان عن إعادة سَنِّ حالة الطوارئ في قانون الأساس لعام 1992: الحكومة،[4] وذلك بشرطِ "ألاّ يتجاوز الإعلانُ عامًا واحدًا". وبذلك، تمّ فرضُ مُدِّة اثنيْ عشر شهرًا، كما يبدو، على حالة الطوارئ. لكن، مع استمرار قانون الأساس بإجازة إجراءِ تجديدات غير محدودة من قبَل البرلمان، فإنّ مُدّة حالة الطوارئ الفعليّة تبقى غير مُحدَّدة. قامت الكنيست لاحقًا، وفي الوقت المناسب، بتجديد حالة الطوارئ في كلّ عامٍ دونَ انقطاع.

 

نشأت عدّة آليّاتٍ، كما سبقت الإشارة أعلاه، نتيجةَ حالة الطوارئ المُعلَنة. بموجب ذلك، تكونُ الحكومة مُخوَّلةٌ لسَنّ أنظمة طوارئ إداريّة مُنفصِلة تلتفُّ على ضماناتٍ دستوريّة "طبيعيّة". في صيف عام 1948، على سبيل المثال، تمّ إصدارُ مرسومِ الطوارئ "الاستيلاء على المُمتلَكات"، ليُجيزَ للحكومةِ المؤقّتةِ الاستيلاء على المَمتلَكات بدواعٍ "أمنيّة" مزعومة. مع نهاية عام 1948، تمّ طرح المزيدِ من أنظمة الطوارئ لضمان إجراءِ عمليّات تحويل ضخمة للأراضي اعتمادًا على دواعٍ أمنيّةٍ خاصة بالدولة.[5] إنّ استخدامَ نموذج الطوارئ بوصفه سطحًا تُنقَشُ عليه السياسات الكولونياليّة للأرض بشكلٍ كبير، يُمكن، بالتالي، تمييزه عن مرحلة البداية، كما أنّ العقود التالية لم تشهد أيّ نقصٍ في أنظمة الطوارئ المفروضةِ في مختلف المجالات.   

 

بالإضافة إلى مثل هذه الجوانب التنفيذيّة (الأنظمة الثانويّة)، يُمكن صياغة التشريع الدستوريّ الرسميّ (القوانين الأساسيّة)، أيضًا، بشكلٍ تكون فيه إمكانيّة التطبيق مشروطةً بوجود حالةِ طوارئ. على سبيل المثال، إنّ قانون سُلطات الطوارئ (الاعتقالات) لعام 1979، الذي يُجيزُ ممارسة الاعتقال الإداريّ بحقّ سكّانٍ من إسرائيل، سُكّانٍ من المناطق المُحتلّة من قبَل إسرائيل، وسُكّانٍ من دوَل أخرى، قد تمّ تأطيره حتّى "يتمّ تطبيقه، فقط، في مدّةٍ تخضعُ البلادُ فيها لحالةِ طوارئ بفضل إعلانٍ بموجب المادّة 9 من مرسوم القانون والإدارة." ولتعقيد الأمور، في الإمكان، أيضًا، تحويل أنظمة الطوارئ الثانويّة المُحدَّثة إلى قوانين طوارئ أساسية على أساس تراكميّ.

 

بموجب القانون الدوليّ، يُجيزُ الإعلانُ الرسميّ عن حالةِ طوارئ للدولّة فرض نظامِ مخالفات الطوارئ الذي يردُ في المواثيق الدوليّة لحقوق الإنسان، وإرجاءَ التزاماتٍ قانونيّةٍ معيّنة في الردّ على "تهديد حياة الشعب". فورَ إقرارِ العهدِ الدوليّ للحقوق المدنيّة السياسيّة عام 1991، أرسلَت إسرائيلُ بلاغًا رسميًّا يَنُصُّ على أنّ وضعها (منذ عام 1948) يُشكِّلُ حالة طوارئ عامّة ضمنَ المعنى الذي يعكسُه حُكم النقض الوارد في المادّة 4 من الميثاق. على هذا الأساس، أعلنَت إسرائيل عن عدم تقيّدها بالمادّة 9 (الحقّ في الحريّة). [6] في حين أنّ لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتّحدة تُشكّك، مِرارًا وتكرارًا، باعتماد إسرائيل على حالة الطوارئ وتشجب الإجراءات المُفرِطة التي تسنُّها بموجب ذلك، فإنّها تُقرُّ بأنّ القانون يُخوِّلُ الدول بعدم التقيّد. [7] وبذلك، يكونُ القانون الدوليّ نفسُه جزءًا ضمن عمليّة لتمديد التشريعات القضائيّة الإسرائيليّة.

 

تجدرُ الإشارة إلى أنّ النظام القانونيّ لحالة الطوارئ في إسرائيل، ورغمَ الادّعاءات الشائعة بأنّه مُقتصِرٌ على الشؤون الأمنيّة الوطنيّة، يتسلّل إلى مجالاتٍ ليس لها علاقةٌ واضحة بأيٍّ من التهديدات المُتصوَّرة لوجود الدولة أو أمنها. بالإضافة إلى مجموعةٍ من سُلطات الطوارئ التي تهدفُ إلى الاستيلاء على أراضٍ فلسطينيّة وتعزيز استمرار مشروع الاستيطان الكولونيالي من جانب إسرائيل، فإنّ إجراءات الطوارئ قد أعلنت في مجالاتِ التنظيم الاقتصادي، قانون العمل، التجارة والشؤون الماليّة. [8] 

 

بصرف النظر عن المَلامح الإمبرياليّة والهيمَنة التي يتميّز بها نظام الطوارئ نفسُه، تنبعُ مسألتان قانونيّتان ثابتتان من حالة الطوارئ المُعلَنة في إسرائيل: أولاً، ما إذا كان الوضعُ في إسرائيل، وبصورةٍ غير منقطعة منذ عام 1948، قد تجاوزَ المرحلة الأوليّة لتهديدٍ وشيكٍ يُشكّل خطرًا على حياة الشعب؛ ثانيًا – وباعتبار أنّ الإجابة عن هذه المسألة قد تمّت بالإيجابِ من قبَل الدولة –  ما إذا كانت الإجراءات التي سُنَّت ضمنَ نموذجِ دولة الطوارئ تُعتبر ضروريّةً ومُتناسِبة. لقد كانت المَخاوِف المُحيطة بهذه المَسائل هي التي دفعَت بناشطين قانونيّين إلى المُطالَبة بإجراء مُراجعَةٍ قضائيّة لحالة الطوارئ المُعلَنة في إسرائيل. 

 

حالة الطوارئ ماثلةً أمام المحكمة

عام 1999، قدّمت جمعيّة حقوق المواطن في إسرائيل (ACRI) التماسًا إلى المحكمة العُليا ضدّ هيئة التشريع، مُتحدّيةً بذلك دستوريّة استمرار حالة الطوارئ، ومُطالبةً بإلغائها. حاججت الجمعيّة، في استئنافها، بأنّ التجديد والتمديد المتواصليْن لحالة الطوارئ من جانب الكنيست، مخالف للقانون الدستوري الإسرائيلي وللمعايير القانونيّة الداخليّة، على أساسِ أنّ الظروف الأمنيّة في إسرائيل ليست استثنائيّةَ بالقدر الذي يستدعي نظامًا استثنائيًّا يُربِكُ الفهمَ الليبراليّ لحُكم القانون وفَصْل السُّلطات. طُرحِت مسألةُ أنّه بخلافِ نوايا نظام الطوارئ (إنْ قُرئَت بصورةٍ أوضح) في إجازة تطبيق إجراءاتٍ مُلحّة وضروريّة لفترةٍ محدودة، فإنّ حالة الطوارئ في إسرائيل كانت دائمة من حيث المُدّة الزمنيّة وغير محدودةٍ من حيث نطاقها، وهي بذلك تُعتبر غير قانونيّة. حاجَجَت جمعيّة حقوق المواطن، أيضًا، بأنّ حالة الطوارئ المُعلَنة قد أجازَت فرضَ تشريعٍ وأنظِمةٍ تنتهكُ حقوق الأرض، التي تُعرقل، على نحوٍ غير مناسب، حُريّة التعبير، حُريّة إنشاء جمعيّات وحُريّة التنظّم، وبصورةٍ تُخالِف القوانين الأساس في إسرائيل.    

مع مُتابعة جلسات الاستماع في أعقاب اندلاع الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية عام 2000، اقترحَت المحكَمة العُليا، برئاسة القاضي أهرون براك، سحبَ الالتماس على ضوء تفاقم الوضع الأمني. قدّمَت جمعيّة حقوق المواطن التماسًا مُعدَّلاً عام 2003، حاجَجت فيه بأنّه حتّى في سياقِ وجود تهديداتٍ أمنيّةٍ مُتصاعِدة، فإنّ استخدام سُلطات الطوارئ يتعيّن أن يكون في حدِّه الأدنى على صعيديْ المُدة الزمنيّة والنطاق، كما أنّ إعلان حالة الطوارئ في إسرائيل لا يزال غير مستند إلى أساسٍ سليم. ادّعى الرأي الذي طرحتُه الدولة (مع إضافة حُكومة إسرائيل، الآنَ، إلى الكنيست بصفةِ المُدّعى عليه) بأنّ إلغاء حالة الطوارئ من شأنه أن يخلقَ فراغًا قانونيًّا وأن يُجرِّدَ السُّلطات من الوسائل الضروريّة لقمعِ التهديدات الأمنيّة. أقرَّت الحكومةُ بنيّتها النأيَ بنفسها عن نموذج حالة الطوارئ (المُعلَنة)، وأبلغَت المحكمة أنّها ستسمرُّ في اتّخاذ خطواتٍ لتعديل أو استبدال التشريع المَشروط بوجود حالة طوارئ رسميّة.

أبلغَت وزارة القضاء المحكمةَ بإلغاء واستبدال أجزاء مُعيّنة في تشريع الطوارئ على نحوٍ مُتواصل. عرَضَت السُّلطات موقفها الذي يبدو مُتناقِضًا، وهو أنّه رغمَ أنّ حالة الطوارئ مُستمرّة في واقع الأمر، يتعيّن إلغاء حالة الطوارئ في القانون بشكل تدريجيّ. إنّ ما يُمكن استخلاصُه من هذا الموقف هو الإقرار الضمنيّ بأنّ الحالة الفعليّة لا تستدعي تطبيقَ تشريعاتِ طوارئ استثنائيّة، بل تفترضُ، على العكس من ذلك، ضرورة أن تندرج هذه التشريعات الاستثنائيّة ضمنَ النظام القانوني "الطبيعي" مع مرور الوقت.     

وافقت المحكمة العُليا بشكلٍ أساسيّ. وفي الوقت الذي أقرّت فيه في سياق الإطار القانوني بأنّ "الوضع الرّاهن يجب أن يبقى دون تغيير"، فقد قامت المحكمة، وبصورةٍ راسخة، بتوصيف المسألة بكونها "مُعقّدة وحسّاسة" ويجب أن تتركَ للسُّلطات، في سياقها، حيّزًا واسعًا من المرونة. [9]في قرارٍ مؤقَّت صدرَ في آب 2006، رفضَت المحكمةَ ادّعاء جمعيّة حقوق المواطن بأنّ الوضع في إسرائيل لم يكن، في الواقع، حالة طوارئ مُتواصلة: "إنّ الحربَ مع الإرهاب مُستعِرة بكامل قوّتها، وإنّ من المستحيل تجاهل ذلك."  [10]في الوقت نفسه، أشارَت المحكمة إلى أنّ "حالة الطوارئ قد استُغِلَّت لشؤونٍ دستوريّة تتعلّق بتشريعٍ مُتوازِن كان قد تمّ سَنُّه قبل وقتٍ طويل".[11] منحَت المحكمةُ المُدَّعى عليهم وقتًا لإدخالِ تغييراتٍ على التشريع المدنيّ المَشروط بحالة الطوارئ، ومع حلول العام 2011، قبلت المحكمة بما يلي:     

تمّ إحرازُ تقدّمٍ في العملية التشريعيّة. إنّ جزءًا من التشريع الذي كان مَشروطًا بحالة الطوارئ قد تغيّر وتعدَّل، وجزءًا آخر يمرُّ بمراحلَ متعدِّدة من العملية التشريعيّة، وثمّةَ نيّةٌ في تنظيم ما تبقّى. [12]

وفقًا لذلك، أصدرت المحكمة، في أيّار 2012، وبعدَ جلسات الاستماع الاثنتيْ عشرة على مدار اثنيْ عشر عامًا، حُكمًا مؤلّفًا من اثنتيْ عشرة صفحة (نصفُها عبارة عن معلومات خلفيّة ومُلخّصات مُحاجَجات) تنتهي إلى أنّ الالتماس قد "أستنفد مجراه" ولذلك يتعيّن رفضُه. [13]استمرّت إسرائيلُ، حسبَ المحكمة، في مواجهة حالة طوارئ: "رياحُ الحربِ هذه لم تتوقف يومًا عن الهبوب، ومع الأسف، يبقى الوضع، نسبيًّا، دون تغيير."[14] يستحضرُ رأيُ القاضي روبنشطاين، باسمِ المحكمة، ذهنيّة الحصار الإسرائيليّة مع أوصافٍ مستطردة حول "تهديدات أعدائنا التي لا تنتهي من قريبٍ ومن بعيد." يقتبسُ القاضي مقتطفًا من الحُكم الذي أصدرته المحكمة مطلَع سنوات الثمانين – وهو يُعتبر تقريبًا نقطة الوسط في حالة الطوارئ بإسرائيل حتّى اليوم – حيث يُصبحُ من الواضح بأنّ موقف المحكمة لم يتغيّر كثيرًا على مدار السنوات الثلاثين الأخيرة:

كما هو معروف، تستمرّ حالة الطوارئ منذ أكثر من 30 عامًا، ومن يدري كم من الوقت ستستمرّ. إنّ حقيقةَ استمرار حالة الطوارئ توصي، من جهةٍ، بتقليص وسائل الطوارئ التي توظّفها الدولة للدفاع عن وجودها بحيث لا تنتهكُ هذه الوسائل، قدرَ الإمكانِ، الحقوق المدنيّة، ولكنّ استمرار حالة الطوارئ المَشروط، من جهةٍ أخرى، بأسبابٍ وظروفٍ معروفةٍ، يُشير إلى حقيقةِ صعوبة مُقارنة وضع دولة إسرائيل منذ قيامها بوضع أيّةِ دولةٍ أخرى. [15]    

يُراعي روبنشطاين السردَ الخاصّ بهذه الاستثنائيّة الإسرائيليّة في تصوّره للدولة العاديّة (من حيث كوْنها "ديمقراطيّةً فعّالةً تكون فيها الحقوقُ الأساسيّة ... محميّة") غير العاديّة (من حيث كوْنها عُرضةً لتهديداتٍ بالغة الخطورة لا تُواجهها دولةٌ ديمقراطيّة "عاديّة").[16] وفقًا لذلك، فإنّ الأزمة التي يفرضُها هذا الوضع "الفريد"، تتحدّى إسرائيلَ في بناء نظامٍ قضائيٍّ يُمكنه أن يردّ على التهديد الاستثنائيّ، من دون مساوَمةٍ على "عاديّة" الدولة. يُطري روبنشطاين على الدولة لعمَلها حتّى اليومِ على إلغاء واستبدال بعض تشريعات الطوارئ، ويُشيرُ إلى الحاجة في استمرار استحضار وسائل متعلّقة بالأمن ومُناهضة الإرهاب من حالةِ طوارئ مُعلَنة؛ أي، تضمينها، بدل ذلك، في نظامٍ قانونيٍّ "عاديّ". قبل وحتّى استكمال هذه السيرورة، حسبَ روبنشطاين، ليس من وظيفة السُّلطة القضائيّة عرقلة تجديداتٍ تنفيذيّة أو تشريعيّة تتعلّق بحالة الطوارئ المُعلَنة. هنا، يتّضح إذعانُ المحكمة العُليا المألوف للمؤسّسات الأمنيّة: "هذه المحكمة ليست بديلاً لاجتهاد المؤسسات المُخوَّلة".[17]  

 

الشرعيّة المُفرِطة

في قراءته لتزايُد التشريع البريطاني المُناهض للإرهاب، الذي تمّ سَنّه أواخر سنوات التسعين، يَصِفُ ناصر حسين نقلةً هيكليّةً في القانون بمعزلٍ عن المفاهيم الأمنيّة المتعلّقة بسُلطات الطوارئ بوصفها تفاعليّة ومؤقَّتة، نحو فهمِ قانون الأمْن كجزءٍ من "منهجيّة حُكمٍ"[18] أوسع وأكثر استمرارًا. يؤكّد حسين على بعض الآليّات – زيادة استخدام تصنيفات الأشخاص (المُعنصَرة) في القانون، نشوء جوانب بيروقراطيّة وإداريّة بشكلٍ مكثَّف لقانون الطوارئ، استخدام مَحاكم ولِجان خاصّة – التي تُساهم في ما يصفُه بـ"التشريع المُفرِط" في العمل. 

 

 

يُمكن تمييزُ منهجيّةٍ مُشابهة في السيرورة تلقى تأييدًا من جانب المحكمة العُليا في إسرائيل، تسعى إلى بناء إطارٍ من الإجراءات الاستثنائيّة الدائمة، والحفاظ على نظامٍ لمُمارسة السُّلطة على الفلسطينيّين، في مقابل إجراءِ تفكيكٍ مُناسبٍ لشبكة سُلطات الطوارئ المُتشابكة على مدار السنوات الستّين الأخيرة. إنّ ثنائيّة الاستقرار/الطوارئ تتنازل عن جزءٍ من مساحة الاستثناء لصالح نموذجٍ مُكمِّل يتمّ من خلاله تطبيع حالة الطوارئ ضمنَ تشريعٍ طبيعيّ (قانون مُناهضة الإرهاب الشامل القادمِ المُقتبَس من قبَل القاضي روبنشطاين، مثلاً) وتعزيزها من خلال إجراءاتِ "طوارئ-خارقة" أثناء عمليّات اعتداءٍ واسعة النطاق على المناطق المُحتلّة. [19]إنّ قانون الطوارئ غير المَشروط سيبقى، بالطبع، في مكانه حتّى لو برَّت الدولةُ بوعدها بشأن إلغاء حالة الطوارئ الرسميّة، كما أنّ انسياب الآليّات القانونيّة المتفاوتة الخاصّة بحالة الطوارئ، سيستمرّ في كوْنه وسيلةً لتنفيذ الإرادة السياديّة.

احتلَّ نظام الطوارئ، على نحوٍ نموذجيّ، حيّزًا مركزيًّا في النظام القانونيّ للمُستعمَرة، ليكون بمثابة جسرٍ يصلُ بين ما وصفَهُ جايمس فيتسجايمس ستيفن في الهند برُكني الإمبرياليّة التوأم للاستيلاء والعدل. إنّ استثنائيّته وطواعيّته قد يسّرتا التطبيقَ المفروضَ من جانب السُّلطة السياديّة، في حين أنّ قانونيّته قد وفّرت القشرة الضروريّة للشرعيّة. لطالما كان ذلك بمثابة تعبيرٍ خالصٍ عن القانون بوصفه قناةً لمُمارسة الهيمنة. إنّ الرأي المستقلّ للقاضية (المُتقاعدة) بينيش في قضيّة قانون الطوارئ، صريحٌ في هذا الصدّد: "إنّ حالة الطوارئ المُعلَنة بموجب القانون هي، وإلى حدٍّ بعيد، نتيجةٌ للتوقّعات السياسيّة."[20] 

 

 

 



[1] حُكم المحكمة العُليا 48/1؛ 48/2، د. هرتسل كوك ضدّ وزير حكومة إسرائيل المؤقّتة وآخرين؛ تسيبورا فينيرسكي ضدّ وزير الدفاع وآخرين، هاميشباط المجلّد 3، 1948؛ مُقتبَس في صبري جريس، العرب في إسرائيل (New York: Monthly Review Press, 1976) 13-14.

 

[2]YoavMehozay, “The Fluid Jurisprudence of Israel’s Emergency Powers: Legal Patchwork as a Governing Norm” (2012) 46(1) Law & Society Review 137, 137-138.

[3] المصدر السابق 140-141.

[4] في الأصل، المادّة 49؛ الآن، المادّة 38.

[5]Amichai Cohen & Stuart Cohen, Israel’s National Security Law: Political Dynamics and Historical Development (London: Routledge, 2011) 56.

[6] “Multilateral Treaties Deposited with the Secretary-General: Status as at 31 December 1991” UN Doc. ST/LEG/SER.E/10 (1992) 149.

[7] بعضُ المحامين الدوليّين، مثل جون كويغلي، يشكّكون في الصحّة الإجرائيّة والموضوعيّة لنقضِ إسرائيل. John Quigley, “Israel’s Forty-Five Year Emergency: Are There Time Limits to Derogations fromHuman Rights Obligations?”(1994)15 Michigan Journal of International Law 491.

[8] Oren Gross & Fionnuala Ní Aoláin, Law in Times of Crisis: Emergency Powers in Theory and Practice (Cambridge: Cambridge University Press, 2006) 232-33، مُقتبِسًا Menachem Hofnung, Democracy, Law and National Security in Israel(Brookfield, VT: Dartmouth, 1996) 55-60 وَ Mordechai Mironi, “Back-to-Work Emergency Orders: Government Intervention in Labor Disputes in Essential Services” (1986)15 Mishpatim 350, 380-86.

[9] التماس إلى المحكمة العليا 99/3091، جمعيّة حقوق المواطن في إسرائيل ضدّ الكنيست وحكومة إسرائيل، قرار حُكم، 8 أيّار 2012، الفقرات 7، 9، 11.

[10] التماس إلى المحكمة العليا 99/3091، جمعيّة حقوق المواطن في إسرائيل ضدّ الكنيست وحكومة إسرائيل، قرار مؤقَّت، 1 آب 2006.