حقيقة الجدل الدائر حول مشروع قانون الدولة القومية اليهودية

المحامي حسن جبارين | التشريع الجديد يسعى إلى قلب التقليد الذي أرساه "بن غوريون"، والذي يمتنع عن سن تشريعات تظهر سمات التمييزية - من أجل إظهار الدولة بمظهر ديموقراطي.

يبدو للمراقبين بأن العوامل الحاسمة التي أفضت إلى حل الحكومة الإسرائيلية في مطلع شهر كانون الأول/ديسمبر الحالي كان لها علاقة بالجدل الحاد الذي يدور حول مشروع قانون الدولة القومية اليهودية، وهو مشروع يؤكد على الطابع الإثني اليهودي الذي يَسِم دولة إسرائيل. ومما يثير دهشة المرء أن هذا الجدل ولّد الانطباع بأن الحكومة الإسرائيليّة انهارت بسبب مسألة المساواة التي يطالب بها المواطنون الفلسطينيّون في إسرائيل –وكأن المكانة القانونيّة للفلسطينيين في إسرائيل، لحقّهم بالمساواة، وحقّهم بكرامة الإنسان وحريّته هي قضيّة ذات أولويّة لأي من التيارات الإسرائيليّة المتعارضة، أو أن الدفاع عن الديمقراطيّة في إسرائيل شأن يمكنه أن يُسقط حكومة أو ينصّبها. فهل هذا حقًا هو جوهر ذلك الجدل المحتدم؟ 

 

مشروع قانون "الدولة القومية اليهودية" يقنن المبادئ التي تكفل التفوق الديموغرافي لصالح اليهود، وتعزز مكانة اللغة العبرية باعتبارها اللغة الرسمية الوحيدة (حيث تُعتبر العربية لغة ذات مكانة خاصّة أيضًا في هذه الآونة) وتعتبر الشريعة اليهودية بمثابة مصدر التشريع في إسرائيل. كما ينص مشروع القانون المذكور على أن إسرائيل هي الدولة التي لا يجوز إلا لأبناء الشعب اليهودي أن يمارسوا حقهم في تقرير المصير فيها. هذه هي الأعمدة الأساسيّة لمشروع القانون الذي قُدّم بأكثر من صيغة مختلفة من قبل أعضاء كنيست تابعين للائتلاف الحكوميّة. 

 

وقد أفرز مشروع قانون الدولة القومية اليهودية شرخًا بين معسكرين سياسيين. فقد أبدت أحزاب التيار اليميني، التي تشكّل الأغلبية في حكومة نتنياهو، تأييدها ومساندتها الكاملة لمشروع القانون. حيث تفترض هذه الأحزاب بأنه ما من سبب يحول دون سن قانون ينص على واقع إسرائيل بصفتها دولة يهودية، وذلك بالنظر إلى أن هذا المفهوم يشكل لبّ الإجماع بين صفوف الجمهور الإسرائيلي اليهودي. في المقابل، لا تخفي أحزاب تيار يسار الوسط الصهيوني الذي تتزعمه تسيبي ليفني، وزيرة العدل الحالية-السابقة، معارضتها الشديدة لمشروع القانون. وفعلًا النقاش الجماهيري والسياسي حول هذا المشروع كان حادًا وجديًا، بينما لاقى هذا النقاش الحاد استهجانًا بين الفلسطينيين، إذ بدى نقاشًا عبثيًا حول مشروع قانون لا يُجدد، بالنسبة للفلسطينيين أنفسهم، أي شيء على ظروف التمييز العنصري الذي يعيشونه.

 

ولكن في الواقع، إذا ما أمعنّا النظر في مشروع القانون، فقد نفترض خطئًا بأنه وُلد من رحم معسكر يسار الوسط نفسه. فبادئ ذي بدء، يمثل مشروع القانون في جوهره ترسيخًا قانونيًا للعقيدة التي آمنت بها إسرائيل على مدى تاريخها والتي ترى فيها بأنها "دولة يهودية ديموقراطية". ففي العام 2000، قررت المحكمة العليا الإسرائيلية بأن قانون العودة الإسرائيلي، والمحافظة على أغلبية يهودية، واعتماد العبرية باعتبارها اللغة المركزية، والأعياد اليهودية، والتراث اليهودي والرموز اليهودية للدولة، تشكّل بمجموعها الحد الأدنى من جوهر "الدولة اليهودية". ولا يتجاوز مشروع القانون الجديد، الذي يضيف بأن "دولة إسرائيل تعتمد نظامًا ديموقراطيًا"، ما جاء في قرار المحكمة العليا. وفضلًا عن ذلك، يعكس مشروع القانون الجديد صورة وثيقة عن الأحكام الإثنية الواردة في مسودة "الدستور التوافقي" الذي أعده المعهد الديموقراطي الإسرائيلي، التابع لتيار يسار الوسط، خلال الفترة الواقعة بين العامين 2004 و2006. وفي الوقت نفسه، شكلت وثائق "الرؤية المستقبلية" التي وضعها المواطنون العرب تحديًا أمام مسودة الدستور التي أعدها المعهد المذكور. ويعود جانب من الأسباب التي تقف وراء ذلك إلى هيمنة السمة الإثنية اليهودية التي لفت أحكام هذا الدستور وصبغتها. 

 


يعود بنا هذا السياق إلى النقاش الحاد بين المثقفين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وناشطي ومثقفي اليسار والوسط الصهيوني في سنوات 2000-2006. في هذه السنوات أصدرت المؤسسات الفلسطينية ومثقفين وناشطين فلسطينيين وثائق التصور المستقبلي والتي تعتمد على رؤيتهم السياسية. ومن أبرز المطالب التي وردت في هذه الوثائق هي اعتماد الدولة ثنائية القومية وإبطال جميع القوانين العنصرية والاستناد إلى مبادئ المساواة الكاملة بين الشعبين داخل الخط الأخضر. ولا زالت هذه الوثائق تشكّل بالنسبة لليمين الإسرائيليّ هدفًا للتحريض والهجوم. نهاية شهر تشرين ثاني من العام الجاري، وقف رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أمام الكنيست مدافعًا عن "قانون الدولة القوميّة اليهوديّة"، في مجرى حديثه شنّ هجومًا على رفض الفلسطينيين للدولة اليهوديّة، وقد ذكر "الدستور الديمقراطي" مهاجمًا مركز عدالة والمؤسسات الحقوقيّة الفلسطينيّة على مطالبتهم بدولة ثنائيّة القوميّة. وليس من يمين الخارطة السياسيّة فقط، لقد واجهت هذه الوثائق هجمة عدائية من أكاديميي اليسار-المركز الصهيوني بحجة أن مطلب المساواة لكاملة ينهي على الدولة كدولة يهودية. وفي هذا السياق أكد رئيس الشاباك السابق يوفال ديسكين بأن العرب في إسرائيل هم تهديد أمني لدولة إسرائيل وأن بنية الشاباك محاربة جميع النشاطات السياسية التي تهدد طبيعة الدولة كدولة يهودية حتى لو كانت تلك النشاطات نشاطات سلمية وشرعية. غالبية هؤلاء الأكاديميين، وغير الأكاديميين على شاكلة يوفال ديسكين يعارضون اليوم مشروع قانون الدولة القومية اليهودية.

 

ثانيًا، وعلى خلاف النوايا التي يبيّتها أنصار تيار اليمين، يعزز مشروع قانون الدولة القومية اليهودية برنامج "دولتين لشعبين" في واقع الأمر، حيث يقترح التيار السياسي اليميني الإسرائيلي، وللمرة الأولى، قانون أساس يميز بين "أرض إسرائيل" (إيريتس يسرائيل) و"ودولة إسرائيل" فيما يتصل بإنجاز تقرير المصير. فمشروع قانون الدولة القومية ينص على أن "أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي ..." وعلى أن "دولة إسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي، والذي يحقق فيها تطلّعه إلى تقرير مصيره". ويفهم المحللون القانونيون هذا التمييز على أنه يعني أن تل أبيب والخليل ليستا متكافئتين في نظر القانون، إذ أنّ هذا التمييز، بين "دولة" و"أرض"، بالتالي فهو لا يعتبر أنه وبالضرورة كلّ أرض إسرائيل هي دولة إسرائيل، وقد يُعتبر هذا التمييز الاصطلاحي أساسًا لوضع حدود دائمة لإسرائيل دون الأراضي المحتلّة عام 1967. وبناءً على ذلك، يتعارض الرأي الذي أبداه القاضي إدموند ليفي، قاضي محكمة العليا - الذي رأى أن غزة هي جزء من أرض إسرائيل وبالتالي فهي جزء من دولة إسرائيل، وهو رأي اقتص منه القاضي ليفي أن الاستيطان يشكّل إنجازًا لحق الشعب اليهودي في تقرير مصيره - مع مشروع قانون الدولة القومية، مثلًا، تناقضًا جديًا. وعلى خلاف ذلك، تتواءم التصريحات التي كانت ليفني تطلقها وهي على رأس وزارة الخارجية في حكومة إيهود أولمرت، والتي كانت تقول فيها بوجوب تمكين المواطنين العرب من إنجاز حقوقهم الجمعية في دولة فلسطينية عتيدة، مع مشروع قانون الدولة القومية الذي ينكر الحقوق الجمعية الواجبة للعرب في إسرائيل. 

 

إذن، لماذا يعارض العديد من أنصار يسار الوسط مشروع قانون الدولة القومية اليهودية؟ لا يعود السبب وراء ذلك إلى أن معظم هؤلاء يفضلون "دولة جميع مواطنيها"، ولا أنهم يؤيّدون دولة ثنائيّة القوميّة، ولا أنهم يتنازلون عن يهوديّ الدولة واحتكار الاثنيّة اليهوديّة للحقوق التاريخيّة والجمعيّة. بل أن هذه المعارضة تأتي من دوافع أخرى كليًا، وهي أن هذا التشريع الجديد يسعى إلى مناهضة التقليد الذي أرساه "بن غوريون" بشأن سيادة القانون منذ أمد بعيد. فهذا التقليد يؤكد على أنه وفيما عدا بعض الاستثناءات القليلة في قضايا حساسة جدًا وحرجة بالنسبة لإسرائيل التي تشمل قانون العودة وقانون أملاك الغائبين في جملتها، ينبغي على إسرائيل أن تحجم عن سن تشريعات تتسم بطابع إثني - بمعنى قوانين مصوغة بلغة لا تخفى سمتها التمييزية - من أجل إظهار الدولة بمظهر تبدو فيه ديموقراطية على الساحة الدولية. فعوضًا عن ذلك، تتكفل السلطتان التنفيذية والقضائية بإنفاذ السياسات التي تقوم على التمييز والقمع الاضطهاد، دون الحاجة إلى سن التشريعات الإثنية. وبناءً على هذا التقليد السياسي، لم يكن هناك من داعٍ، مثلًا، لقانون لجان القبول لسنة 2011، الذي يمارس التمييز ضد المواطنين العرب في قطاع الإسكان، وذلك لأن هذه اللجان وسلطة الأراضي الإسرائيلية قد حرصت من الناحية العملية على بقاء التجمعات السكانية المعنية "نظيفة" من العرب، في نفس الوقت الذي حافظت فيه "نظافة" التشريعات الإسرائيلية. وعلى هذا الأساس، لم يكن هناك من قانون يخوّل الدولة فرض الحكم العسكري على المواطنين العرب في الفترة الممتدة بين العامين 1944 و1966. وليس هناك من قانون اليوم يفرض الاحتلال العسكري على الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ العام 1967. وليس هناك أيضًا من قانون ينص على تصنيف قطاع غزة باعتباره هدفًا لفرض الحصار العسكري عليه منذ العام 2007. ففي جميع هذه الحالات، تتولى الحكومة والجيش والجهاز القضائي إنفاذ الإجراءات المطلوبة عوضًا عن القوانين الإثنية. لذا، فمن يدرس القانون الإسرائيلي من خلال التشريعات، يظنّ بعدم وجود احتلال في هذه البلاد، ولا يوجد تمييز عرقيّ. فلا قانون في كتاب القوانين الإسرائيليّ يشرعن إقامة جدار الفصل العنصريّ رغم أهميّته القانونيّة وتبعاته على حياة الناس اليوميّة. هكذا تمكّنت إسرائيل ولسنوات طويلة من تطبيق أبشع الممارسات التمييزيّة على الأرض بينما أبقت النصوص بالحد الأدنى الممكن من الاثنيّة.

 

كما يعمل هذا التقليد في الاتجاه المعاكس في بعض الأحيان. فعلى الرغم من الواقع الذي يقول بأن القانون الإسرائيلي ينص على أن العربية والعبرية هما اللغتان الرسميتان للدولة، فقد دأبت المحكمة العليا على تجاهل هذا القانون، بل وأصدرت الأحكام التي قضت فيها بأن العبرية هي اللغة المركزية للدولة، وهو ما ينصّه قانون الدولة اليهوديّة. وفي الوقت الذي قبلت فيه المحكمة بعض الاستئنافات المتصلة باستخدام اللغة العربية، فقد قررت وعلى أساس من هذه الروح نفسها بأن الاستخدام المحدد للغة العربية لا ينال من صدارة اللغة العبرية. لذا فمن يدرس التشريعات دون دراسة أحكام المحكمة العليا، يخيّل له بأن هناك قوانين تحمي الحقوق الجمعيّة للفلسطينيين داخل الخط الأخضر. ومن المفارقة أن المحكمة العليا التي تعتبرها إسرائيل علم الدفاع عن الحقوق والحريّات، إنما هي تسبق القانون في تأزيم المكانة القانونيّة للفلسطينيين في إسرائيلأ.

 

ومن خلال هذه الوسائل، تكفّل التقليد الذي يقول "بسيادة القانون الإسرائيلي" على تثبيت السياسات والممارسات التمييزية حتى في الحالات التي توجد فيها قوانين تتصف بصفة إيجابية (كما هو الحال بالنسبة إلى المكانة الرسمية للغة العربية) وحتى مع غياب القوانين التي لا يخفى طابعها الإثني المباشر. ويتناقض هذا التقليد مع مبدأ الفصل بين السلطات، ويعوق في واقع حاله جوهر سيادة القانون وسلطانه. 

 

وبناءً على ما تقدم، يتمحور الجدل العام الذي يدور حول مشروع قانون الدولة القومي اليهودية حول هذا التقليد القانوني بصورة رئيسية. فقد رفضت حكومة نتنياهو الامتثال لهذا التقليد والتماشي معه، وسعت بدل ذلك إلى تشريع الممارسات العنصرية الراهنة واستعادة سلطة البرلمان، بحيث تحوله من هيئة سلبية لا تأثير لها إلى هيئة ناشطة تفعل فعلها. ويعارض "المعسكر التقليدي"، الذي يمثله يسار الوسط، هذا التحرك لسبب رئيسي ينطوي على عدم الحاجة إلى قوانين إثنية. فهذا العمل يجري إنجازه بصورة ناجعة وفعالة منذ العام 1948 دون وجود "التشريعات التي تسبب الإحراج". ولذلك، لا تكمن مواطن القلق التي تعتري المعسكر التقليدي في القضاء على التمييز، وإنما في إخفائه والتعمية عليه بغية المحافظة على صورة الدولة على الساحة الدولية. وفي المقابل، يتمثل القلق الذي يساور حكومة نتنياهو في إبراز تفوق اليهود وصدارتهم والحط من قدر المواطنين العرب على نحو صريح لا لبس فيه - وذلك في نظر العرب أنفسهم وفي نظر اليهود أيضًا. وبذلك، يُعتبر قانون الدولة القومية مناهضًا للعرب وعنصريًا في صميمه. 

 

ولهذه الأسباب، لا يتعلق الجدل الدائر بين المعسكرين بالأسباب التي تبين وجوب التخلي عن ممارسة التمييز من عدمه، بل بالطريقة التي تتيح مواصلة ممارسة هذا التمييز وإدامته. وتكمن المفارقة في أن هذا التوجه الذي تحذوه حكومة نتنياهو يتماشى مع الشعور الرسمي بمبدأ سيادة القانون بمفهومه الصوري. بيد أن هذا الأمر هو نفسه ما يشكّل موطن التشابه ونقطة الالتقاء بين الحكومة الإسرائيلية الحالية ونظام الفصل العنصري الذي عاشته جنوب أفريقيا، والذي رسخ ممارسة التفوق العنصري في التشريعات بصورة لا مواربة فيها. اليوم، وحده هذا هو الصراع السياسي الإسرائيلي الداخلي بين من يبرز الاثنية اليهوديّة والسياسات المركزية الصهيونيّة من خلال القوانين والتشريعات، ضد من يريد أن يخفيها ويمنع إبرازها تاركًا مهمة التمييز العرقيّ للسلطات الأخرى.