من النكبة إلى "كمينتس": أشكال السيطرة على الحيّز

ميسانة موراني*

69 عامًا مرّوا ولا يزال هاجس السيطرة على الحيّز "وحمايته" من الوجود العربيّ بهدف تسخيره لمصلحة اليهود والدولة اليهوديّة حجر الأساس في السياسات الإسرائيليّة. إنّ هذه السياسات ليست بالجديدة، ولا يمكن قراءتها بمعزل عن السياق التاريخي، وإن كانت التشريعات الجديدة كقانون "كمينتس" وقانون "شرعنة المستوطنات" وصور الهدم والاقتلاع والتشريد في السنة الأخيرة قد سلّطت الضوء على جانب التطبيق العنيف لسياسة الحكومة في كل من قلنسوة وأم الحيران والقدس وخان الأحمر. 

لعلّ التجلي الأوضح والأعنف لهذه السياسات كان خلال النكبة، إذ استخدمت القوى الصهيونيّة، ومن بعدها دولة إسرائيل وجيشها، القوّة الفعليّة – قوّة الذراع وقوّة السلاح – من أجل طرد سكّان 600 بلدة عربيّة، إلى جانب السيطرة على الأراضي وهدم البلدات في مرحلةٍ متأخرة. ركّزت الدولة مَن بقي مِن الفلسطينيين في مناطق محدّدة – 139 بلدة بقيت واعتُرف بها، وكذلك منطقة السياج في النقب- ووضعتهم تحت الحكم العسكري لمدّة 20 عامًا.

في المرحلة الثانية، وبعد أن قلّت المبرّرات للاستمرار في استخدام السلاح للسيطرة على الأراضي، بدأت الدولة تستخدم سلاحًا آخر، أكثر "نظافةً" – القانون. وتحت غطاء العموميّة والحياد، واصلت إسرائيل سياسة سلب الأراضي وشرعنتها. هدفت هذه القوانين إلى السيطرة على أكبر مساحة من الأراضي العربيّة: سيطرت على أملاك اللاجئين، بما في ذلك المهجّرين في الداخل، من خلال سُلطة الوصاية على أملاك الغائبين؛ تمت مصادرة 50 في المئة من أراضي الفلسطينيين ممّن أصبحوا مواطنين في إسرائيل، واستُخدم جزء كبير منها "لأهداف عامّة" – الاستيطان اليهوديّ. لا يزال نهْجُ استخدام قوانين الأراضي والمصادرة من أجل السيطرة على الحيّز يُطبّق بشكلٍ واضحٍ في القدس والنقب.

في مرحلةٍ متأخرة، وبعد السيطرة الفعليّة والقضائيّة على الأراضي، انتقلت الدولة إلى المرحلة الثالثة: مرحلة التقييدات التخطيطيّة على استخدام الأرض. حُددت مناطق نفوذ القرى العربيّة بشكلٍ دقيق يلاصق آخر بيتٍ في البلدة، ولم توسّع الأغلبيّة الساحقة لمناطق النفوذ بتاتًا. أحيطت البلدات بالمعسكرات وبمناطق إطلاق النار وبالغابات وبالحدائق الوطنيّة وبالمحميّات الطبيعيّة وبالأوتوسترادات. بالإضافة إلى ذلك، صُنّفت معظم البلدات العربيّة في الخرائط الهيكليّة بأنها مناطق محدودة التطوير.

يُشكّل قانون كمينتس، الذي تمت المصادقة عليه مؤخرًا، أداة أخرى من أدوات السيطرة التخطيطيّة، ويكشف حقيقة أنّ الإجراء التخطيطيّ هو، عمليًّا، استعمالٌ للقوّة والسيطرة. ففي حين أن القانون، بأهدافه المُعلنة، يسعى إلى تعزيز إجراءات فرض قوانين التخطيط والبناء وجعلها ناجعة – من خلال زيادة استخدام الأدوات الإداريّة وتقليص إمكانيّة التدخّل القضائيّ، وتشديد العقوبة على هذه المخالفات، بما في ذلك زيادة استخدام العقوبات الماليّة – فإن الحكومة تبادر، عمليًّا، من خلال هذا القانون، إلى توسيع عمليّات هدم البيوت في القرى والمدن العربيّة.

ورغم أن القانون يختبئ وراء حياديّة وعمومية التطبيق، فإنّه لا يعمل وسط فراغٍ بل في سياق واقع جيوسياسي. ومن الواضح أن تأثيره الأساسيّ يقع على المجتمع العربيّ. فبعد عقود مارست خلالها الدولة سياسات تمييزيّة – كالامتناع عن التخطيط في البلدات العربيّة أو التخطيط السيئ بأفضل الأحوال – خلقت الدولة أزمة سكنيّة خانقة جدًّا في البلدات العربية وجهّزت الأرضيّة للبناء غير المرخّص. ونكون هنا قد وصلنا إلى مرحلة "تطبيق القانون" واستخدام قوّة السيطرة الفعليّة.

يتجاهل القانون، كليًّا، الأسباب التي أدّت إلى ظاهرة البناء غير المرخّص؛ كما أنّه يتجاهل مسؤوليّة الدولة اتجاه هذه الأزمة. علاوة على ذلك، يتجاهل القانون نتائج "تشديد فرض القانون" – مئات العائلات التي ستبقى دون مأوى ودون حلّ سكنيّ ملائم. لذلك، من الواضح أنه لا يُمكن التعامل مع ظاهرة "البناء غير المرخّص" في البلدات العربيّة كأي مخالفة جنائية أخرى. 

إنما يجب النظر إلى هذه الظاهرة باعتبارها جزءًا من أزمة المسكن الخطيرة في هذه البلدات، ونتاجًا لسياسات حكوميّة تمييزيّة طويلة الأمد. كذلك، لا يمكن قراءة التشديدات في تطبيق القانون بمعزل عن السياق العام لتعامل الدولة مع المواطنين العرب في كل ما يتعلّق بالأراضي. قانون كمينتس يعطي الدولة أدوات أنجع وأسرع في محاولة لتضييق مساحة الوجود العربيّ وتهويد الحيّز وتصميمه لخدمة أهداف الدولة اليهوديّة.


*محاميّة في قسم الأرض والتخطيط في مركز عدالة