جنوب أفريقيا: سوادها ناصعُ البياض

جميلة عاصلة | مجلة عدالة الإلكترونيّة، العدد 48، أيّار 2008
نائبة رئيس برلمان جنوب أفريقيا: "استقلالنا مَنقوص ما دامت فلسطين غير مُستقلة"

 

 

 

 

 

 

جميلة عاصلة | مجلة عدالة الإلكترونيّة، العدد 48، أيّار 2008

مرت سبع سنوات ونيّف ونحن نسابق الزمن، عاجزين عن إزالة الحواجز من أجل التوصّل إلى العدالة الهاربة. سبع سنوات وقطارنا لم يتوقف إلا في محطات الخيبات. ورغم ذلك، ولأننا نؤمن بعدالة قضيّتنا، لم يكن قرار المستشار القضائي للحكومة، ميني مزوز، بإغلاق ملف الشهداء، ليطفئ النور في عيوننا.

لقد رمينا بأنفسنا -نحن ذوي الشهداء- في الموج، لنكون جزءًا من حركة البحر المجنون، ورفضنا النوم على الساحل، كي نكون عند حسن ظنّ الشهداء، إيمانًا منا بأنّه لا قيمة لشعب بلا لسان.

من هنا، قمنا في التاسع عشر من الشهر الفائت (نيسان 2008) بزيارة جنوب أفريقيا، البلد الذي يفهم المعنى الحقيقي للظلم، كخطوة أولى لتطبيق قرار اللجوء إلى المرافعة الدوليّة في ملف الشهداء. لم يكن اختيار جنوب أفريقيا كبوابتنا للعالم صدفة؛ وبما أننا لا نستطيع أن نحمل وطنًا مغتصبًا وشعبًا بأكمله، تقرّر أن يسافر إلى جنوب أفريقيا وفد يتألف من السيد شوقي خطيب، رئيس لجنة المتابعة العليا، وثمانية أفراد من عوائل الشهداء وخمسة أفراد من طاقم "عدالة"، المركز الذي أصرَّ منذ البداية على أن يكون محاموه أفضلَ محامين لأعدل قضيّة.

إنطلق الوفد في التاسع عشر من نيسان في ساعات الظهر، بينما يضع كل منّا شارةً على صدره ذات أربعة ألوان، يتلخّص شعارها بالمطالبة بالحقيقة والعدالة وتحمّل مسؤوليّة قتل أبنائنا الثلاثة عشر، الذين محت المؤسّسة الصّهيونية أسماءهم من سجلّ الحياة. ووضعنا نصب عيوننا أن نرفع صوتنا عاليًا ونحكي حكاية الشهداء خارج الوطن، وحكاية أبناء شعبنا الذين يعيشون عمرًا مهددًا.

بقينا ثلاث عشرة ساعة في الفضاء بين السّماء والأرض، لتحطّ بنا الطائرة أخيرًا في مدينة جوهانسبورغ، وإذا بوفد يضمّ شخصيات مرموقه، ذات تاريخ مُشرّف وناشطة على الساحة، ينتظر وصولنا فاتحًا ذراعيه لاحتضاننا واحتضان قضيّتنا.

بعد انتقالنا إلى مدينة بريتوريا، كان لنا لقاءٌ مُميّزٌ في شبكة الإعلام (MRN) التي تنحني لها الرؤوس، ولكلّ من يعمل فيها، وذالك لمهارتهم وخبرتهم في الإعلام. لقد لمسنا تعاطفهم مع قضيّتنا بشكلٍ خاصٍّ، والقضية الفلسطينية عمومًا، وأبدوا استعدادًا تامًا للعمل على نشر قضيّتنا إيمانًا منهم بعدالتها.

أما اللقاءات اللاحقة فكانت مُكثفة ومتنوعة، أبرزها كان مع أعضاء من "لجان المصالحة والحقيقة": لجنة دعم ضحايا الأبرتهايد ودعم عائلات المعتقلين؛ لجنة حقوق الإنسان ومحامين ذوي خبرة ومعرفة، منهم المحامي جورج بيزوس، المحامي الذي ترافع عن نيلسون مانديلا، وأقدم مُحامٍ عمل ضدّ الأبرتهايد، إلى جانب مُحققين مُتمرّسين ومُؤَدلجين اكتسبوا خبرتهم في زمن الأبرتهايد.

وأبدى كُلّ من التقيناه استعدادًا للعمل لدفع قضيّة الشهداء من أجل إحقاق الحقّ وتحقيق العدالة، ما بعث بنا شعورًا بالرّاحة. وقد وَعَد الجميع بأن يُلقوا الضّوء على هذه القضية واعتبروا ذلك فخرًا لهم. وكانت الزيارة الأكثر إثارة عندما زُرنا المحكمة التي كانت بالأمس القريب سِجنًا يغُصّ بمناضلين كُثُر، وعلى رأسهم

 

المناضل الصّلب نيلسون مانديلا. كبر الأسرى داخل السجن وأصبحوا عمالقة يُبشِّرُون بالحرّية من السّلطة البيضاء، سلطة التمييز العنصريّ. كان هؤلاء الأسرى يُقيمون وراء القضبان وفي نفوسهم شهوةٌ لحياة كريمة، يحملون الألم عامًا بعد عام، وقد نسوْا كيف تشرق الشمس في الصّباح، وكيف تغرُبُ في المساء. إلا أنّهم كانوا على ثقة بأنّ آلامهم ستبعث شمس الحرية على الشروق.

وقد انفعلنا كثيرًا خلال تجوالنا بين أقسام هذا السجن، إذ خِلنا تلك الجدران تنطقُ بأسماء الأسرى الذين دفعوا ضريبة التحرير؛ هؤلاء الناس الذين لا ذنبَ لهم سوى أنهم وُلدوا ببشرة سوداء، وقد لاقوْا ما لاقوْا من تلك السلطة البيضاء التي تفنّنت في هندسة السّجون وتعذيب المُناضلين. لكنّ باستطاعتنا القول إنه ورغم المرارة التي يشعرُ بها الزائر خلال تجواله بين أقسام هذا السّجن، إلا أنّ هنالك شعورًا يبعثُ على الاعتزاز والفخر بشعب مُناضل.

دخلنا إلى أروقة المحكمة، التي أقيمت على أنقاض قسم من هذا السجن، حيث نُقلت حجارة ذلك القسم لتبقى الأساس لهذه المحكمة- ولهذا التخطيط مَعانٍ كثيرة. وتجلّت براعة المهندس في وجود شبّاك واسع في أحد جدران المحكمة، يُطلّ على قسم من أقسام السّجن مُذكّرًا الحكامَ والحضورَ أثناء الجلسات بالظلم الذي طال هذا الشعب في يوم من الأيام، وبأنّ العدالة هي الأساس، والتي تصدر عادة بقرار من أحد عشر قاضيًا مختلفي اللون والجنس.

اختتمنا هذه الجوله بطيِّ يوم آخر من أيام هذه الزيارة لنكون على وعد بلقاء مع مجموعة من الأمّهات اللواتي كُنّ ضحايا نظام الأبرتهايد في قرية مامالودي ("أم الموسيقى"). فقدت هؤلاء الأمهات أبناءَهنَ قتلاً أو خطفًا وأكثرهن لا يعرفن حتى اليوم مصيرَ أبنائهنَّ. والحقيقة أنه من الصّعب أن نجد الكلمات مهما فتّشنا في رحم اللغة للتّعبير عن معاناة هؤلاء الأمّهات. ما أستطيع قوله هو إنه، وبعد وصولنا وسرد حكايا المعاناة من كلا الطرفيْن، شعرنا من اللحظة الأولى بأننا نشبههنَّ وبأننا صورة طبق الأصل عنهنّ، وأنّ جسرًا يمتدّ بين جراحنا وجراحهنّ.

وأجزم بأنّ ما من شخص التقيناه إلا ولاحظنا في وجهه عزمًا وإصرارًا. كلها وجوه تفوح منها رائحة الفخر بتاريخهم ونضالهم؛ وجوه متألقة مثل نجوم غَسَلها المطر. فهي تثير الإعجاب أكثر مما تثير الشفقة في النفوس. نعم، وجوهٌ لشعب رأيناها متألقة، رفض أن يكون عبدًا لسلطة بيضاء، بل كان عبدًا لقضيته هو. لقد ضاق الوقت كثيرًا ولم نستطع أن نلتقي بأكثر مما التقينا، لكننا استطعنا أن نتمعّن في عيون الكثيرين التي بدت مُستودَعًا لآلام ومجازر اُرتكبت بحقّ هذا الشعب.

هذا هو الجزء الأول لهذه الزيارة، والتي حاولنا خلالها أن نجيد قراءة كلّ شيءٍ، إلا أنه لا يمكن تجاهلُ أمر هام وهو أنّ العين في بلاد الغربة كثيرًا ما تكون انتقائية، وغالبًا ما تتأجّج مشاعر الحسد والغيرة، فتلتهب غريزة المقارنة، وكلّ حاضر يذكّرك بالغائب، وكل حركة تصير ذات مدلول. وقد كان هذا الشعور في أوجه عند دخولنا إلى متحف الذاكرة في مدينة سويتو، الذي يُوثق بالصوت والصورة كلَّ معاناة هذا الشعب وحالات التمييز والاضطهاد في فترة الأبرتهايد وانتفاضة سويتو في 16 حزيران (يونيو) 1976. لأنّ هذا الشعب أصرّ على أن يوثق ورفض أن تُصابَ أجيالهم الشابة بفقدان الذاكرة، كما أصرّوا على أن يكونوا أوفياء لها.

 

 

 

لقد خرجنا من هناك نُحني رؤوسَنا لهذا الشّعب وفي نفوسنا حسرة وفي قلوبنا خوف على ذاكرتنا من العطب وعلى تاريخنا من التشويه.

أمّا اليوم الرابع فكان استثنائيًا بلقاءِ شخصية استثنائية في مبنى البرلمان في مدينة كيب تاون (رأس الرجاء الصالح)، وهي نائبة رئيس برلمان جنوب أفريقيا، السيده ماهالانغو ناكابيند، حيث رحّبت بدورها مُعتذرة عن عدم وجود الرئيس لخروج البرلمان في عطلة لاقتراب يوم الاستقلال. كانت الجلسة حميمة وتوّجتها بجملة رائعة، حيث قالت لنا: "إنّ استقلالنا مَنقوص لأنّ فلسطين غير مُستقلة، وجرحُنا مفتوح ما دام الجرح الفلسطيني مفتوحًا. ونحن نود أن نرى ذوي الشهداء معنا في هذا المبنى ليلتقوا بالجميع هنا، وآمل أن يكون قريبًا. نعدكم بأن نكون لكم البيت الدافئ".

هكذا انتهى الدرس الاول من المرافعة الدولية، حيث اختتمناه بزيارة لمركز القضاء الإسلامي الأعلى في مدينة "كيب تاون"، الذي أبدى استعدادًا كسابقيه للالتصاق بقضيّتنا وتحديدًا قضية الشهداء.

بضعة أيام قضيناها، نحن أعضاء الوفد، لنخرج بقناعة، أكثر من ذي قبل، بأنه من الأجدر بنا أن نتّخذ هذا الشعب نموذجًا كخيار لنا في مسيرتنا، لأنّ التاريخ لم يترك لنا خيارًا آخر، ولأنّ الصمت على الظلم هو وثيقة إدانة ضدّنا. ومن هناك أعلنّا إننا سنكون دائمًا وأبدًا حاضرين، نأبى السّقوط والاستسلام. وستظلّ العدالة وحقوق الإنسان -وعلى رأسها الحقّ في الحياة والحقّ في العيش بكرامة ومساواة- بالنسبة لنا حُلمًا نطارده.

 

* الكاتبة والدة الشهيد أسيل عاصلة، عرابة

 

ملفات متعلقة: